أحدثت التقنيَّات الحديثة والتطوُّر المستمرُّ تغيُّرًا في المعادلة الصناعيَّة المحلِّية، فبدلًا من الاعتماد على الصِّناعات الحِرَفيَّة، عملت الدوَل والمصانع الكبرى على تطوير إنتاجها بشكْلٍ يعتمد على التصنيع الآلي، ما أوجد فجْوةً بَيْنَ الصِّناعات الحِرَفيَّة التقليديَّة، التي كانت تغطِّي احتياجات الإنسان في عصرها، وبَيْنَ الإنتاج الجديد المعتمد على نمطٍ استهلاكي يُواكب عصره، ونسَقٍ إنتاجي يُراعي التغيُّرات العميقة في سلوكيَّات وحاجات الأفراد وأنماط الاستهلاك، بالإضافة إلى التطوُّر الذي شهدته الخامات الأساسيَّة للتصنيع. لكنْ ظلَّت الصِّناعات الحِرَفيَّة صامدةً في وجْه هذا التطوُّر ولم يندثر كثير منها؛ لأنَّها تخطَّت دَوْرَها في التصنيع بهدف الاستهلاك، وتحوَّلت لِتكُونَ جزءًا مؤثِّرًا وراسخًا من جوانب الهُويَّة الوطنيَّة. لذلك فطن لأهميَّتها وتحوَّلت من جديد لصناعة قادرة، إذا أُحسن إدارتها، إلى صناعة جاذبة للقوى العاملة، وقادرة على تحقيق المكاسب الماديَّة والمَرجوَّة، بشكْلٍ دفَع العديد من دوَل العالم إلى السَّعي لإحياء صناعات قد تكون اندثرت بفعل التطوُّر، لكنَّها أطلَّت برَوْنقٍ حِرَفي جديد، لِتُواكبَ هذا التوجُّه الصِّناعي الجديد الهادف إلى إحياء هذه الصِّناعات، المرتبطة بالأساس بالحركة السياحيَّة العالميَّة، حيث شهد حجم التجارة العالميَّة لتلك الصِّناعات عشرات المليارات حَوْلَ العالم، ما عزَّز أهميَّتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وأعاد لها الحياة.
ولعلَّ السَّلطنة من الدوَل القليلة التي أدركت أهميَّة تلك الحِرَف منذ بداية نهضتها المباركة، وحرصت على أنْ تكُونَ جزءًا من تطوُّرها الصِّناعي، فكانت سبَّاقة في الاستثمار في تراثها الحِرَفي، وعملت على إقامة المشاريع الحِرَفيَّة ومساندتها، والسَّعي بجهد لفتح أسواق لتسويق تلك المُنتجات التي تُعدُّ في حدِّ ذاتها خير دعاية لعُمان وتراثها التَّليد؛ إدراكًا منها بأنَّ التميُّز العالمي يبدأ من الداخل، وأنَّ الصِّناعات الحِرَفيَّة العُمانيَّة تمتلك مُقوِّمات كبيرة في مُنتجات عديدة، ستجعلها أكثر قدرة تنافسيَّة في المستقبَل القريب، وبالتالي تفتح الأبواب نَحْوَ فُرص عمل حقيقيَّة لشبابنا، إضافة إلى تعميقها للبُعد الثَّقافي كدولة ذات إرث حضاري يجعلها تقف باعتداد أمام الدوَل المتقدِّمة، بما تملكه من إبداع شَعْبي‏.‏
وكخطوة جديدة تعزِّز الأهميَّة الوطنيَّة لتلك الحِرَف في البلاد، جاءت اللائحة التنظيميَّة لدعم الصِّناعات الحِرَفيَّة بموجب القرار رقم 262/2022م الذي أصدره معالي قيس بن محمد اليوسف وزير التِّجارة والصِّناعة وترويج الاستثمار، رئيس مجلس إدارة هيئة تنمية المؤسَّسات الصَّغيرة والمتوسِّطة؛ وذلك تأكيدًا على الدَّور الفاعل للحِرَفيِّين وأهميَّة تنمية وتطوير الصِّناعات الحِرَفيَّة في السَّلطنة، وذلك عَبْرَ وضْع تعريف للحِرَفي، والمؤسَّسة الحِرَفيَّة، ونَوْع الدعم المقدَّم، والمستفيدين من الدعم، وتحديد الصِّناعات الحِرَفيَّة محلَّ الدَّعم (20 نشاطًا) أبرزها صنع الخناجر العُمانيَّة وصنع المُنتجات الحِرَفيَّة من الفخار والخزف، وصنع المُنتجات الحِرَفيَّة من الجلد والسَّعف والخشب والحجر والجبس، وصنع وتجهيز البخور وأدوات الصَّيد التقليديَّة. ونصَّت اللائحة على تشكيل لجنة مختصَّة للبَتِّ في طلبات الدَّعم المقدَّمة، وتحديد قيمة وأوجُه الصَّرف، حيث يُحدَّد الدَّعم المقدَّم وفقًا لاحتياجات الحِرَفي أو المؤسَّسة الحِرَفيَّة من آلات ومعدَّات وتجهيزات، ما يضع النقاط فوق الحروف، ويجعل الصِّناعات الحِرَفيَّة العُمانيَّة أكثر تنظيمًا، ويسهِّل عمليَّات الدَّعم والمساندة الموجَّهة لروَّاد الأعمال.
فبالإضافة لتلك التفصيلات السابقة، حدَّدت اللائحة شروط حصول كُلٍّ من الحِرَفي والمؤسَّسة الحِرَفيَّة على الدَّعم، ووضَّحت آليَّة التقديم عَبْرَ نموذج مُعدٍّ سيجري الإعلان عنه عَبْرَ وسائل التواصل والإعلام بالهيئة، وبيان الالتزامات الواجبة على المستفيد من الدَّعم، وأخيرًا توضيح الحالات التي يترتب عليها إلغاء الدَّعم، وهي ضوابط تحرص على أنْ يصل الدَّعم إلى مستحقِّيه من أصحاب الحِرَف التقليديَّة، ويُسهم بالتأكيد في تطويرها، والعمل على إضفاء بُعد اقتصادي، سيكون له إسهاماته في مرحلة التوجُّه الوطني نَحْوَ التنويع الاقتصادي المأمول.