محمد بن سعيد الفطيسي:
لا شك أن اللقاءات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أعزَّه الله ـ بشيوخ المحافظات ليس بالأمر المستحدث في التاريخ السياسي أو الفكر السياسي العماني، فقد كان الإمام أحمد بن سعيد؛ مؤسس دولة آل بوسعيد (1744-1783) يقوم بزيارات وجولات مماثلة "تشمل مختلف محافظات السلطنة، يقضى من خلالها حوائج الناس وينصف المظلوم ويكرم الفقراء والمعوزين، وكانت مقابلة الإمام مفتوحة لجميع المواطنين من ذوي الحاجة"(1 )
كما أن مؤسس سلطنة عمان المعاصرة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ (1970 – 2020) بدأ جولاته التفقدية في الولايات والمحافظات في بداية العام 1971م تحديدا يوم 8 فبراير، وهي دلالة واضحة على أهمية الجولات واللقاءات السلطانية بالمواطنين ومشايخ المحافظات، وعن هذه الجولات وأهميتها قال جلالته (طيَّب الله ثراه) "لقاءاتي هذه مع الشعب ذات أهمية بالغة بالنسبة لي، ومن تقاليد بلادنا توفير فرصة لكل عماني أن يلتقي سلطانه من دون وسطاء" (2 )
وهو ذات النهج الذي يسير عليه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أعزَّه الله ـ سواء من خلال زياراته للمؤسسات العسكرية أو اللقاءات بمشايخ المحافظات والتي كانت بدايتها مع مشايخ محافظتي الداخلية والوسطى في 4 يناير 2022م، لذا تُعد تلك الجولات واللقاءات امتدادا تقليديا في التاريخ والفكر السياسي العماني، بالتالي فهي "سمة من سمات تاريخ حكام آل بوسعيد، كل حسب عصره وزمانه وظروفه"(3 )
مما لا شك فيه أن لمثل هذه الزيارات التفقدية واللقاءات والجولات المستمرة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أعزَّه الله ـ العديد من الأهداف والأبعاد المختلفة، ومن ضمنها البُعد السياسي والذي يقع على رأس سلم أولويات واهتمام أي نظام سياسي حاكم في مختلف أنحاء العالم ومهما كان شكل الحكم فيه، حيث يُعد البُعد السياسي بمثابة المرآة لمعرفة مدى ترابط وعلاقة الحاكم بشعبه وقربه منهم والعكس صحيح.
يضاف إلى ذلك أن البُعد السياسي يشكل الصورة الذهنية، ويرسم السمة السياسية لطبيعة النظام السياسي، ويظهر تلك المتطلبات والأفكار التي يمكن من خلالها تعزيز مكانته وأدواره في البيئة الوطنية الداخلية والخارجية والثقافة السياسية الوطنية، يضاف إلى ذلك أن للبُعد السياسي أهمية كبيرة فيما يتعلق بجانب الاستقرار السياسي ومتطلبات الإصلاح السياسي وتعزيز أداء المؤسسة السياسية الحاكمة وبقية مؤسسات الدولة. باختصار، تشكل الجولات واللقاءات السلطانية فرصة كبيرة لأطراف العلاقة السياسية في أي نظام حكم لتحقيق العديد من الأهداف السياسية وغير السياسية.
على ضوء ذلك نطرح السؤال الآتي: ما أبرز وأهم الأبعاد السياسية التي يمكن استخلاصها من الجولات واللقاءات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أعزَّه الله ـ بمشايخ محافظات السلطنة؟ مع التأكيد طبعا ـ وكما سبق وأشرت ـ أن هناك العديد من الأبعاد السياسية التي يمكن استخلاصها (على سبيل المثال لا الحصر) من تلك الزيارات واللقاءات، ولكن من وجهة نظري الشخصية أجد أن أبرزها الآتي:
• تمكين متطلبات الديموقراطية والحكم الرشيد.
• تحقيق الإصلاح السياسي والرقابة الإدارية المتعلقة بالمؤسسات والإدارات الحكومية.
• تعزيز الثقافة والتنمية السياسية في الداخل الوطني.
• ربط وتوثيق التاريخ والفكر السياسي العماني القديم بالحديث.
أولا: تمكين متطلبات الديموقراطية والحكم الرشيد: حيث تشكل الجولات السلطانية نموذجا من نماذج تحقيق السمة التواصلية بين الحاكم والمحكوم، حيث تطرح أبرز القضايا الوطنية التي تحقق الصالح العام ومتطلبات المواطنين بشكل مباشر على الحاكم، وهو ما يحقق واقعية النهج السياسي، كما أن هذه الجولات تساعد على تعزيز الولاء السياسي والثقة السياسية.
بمعنى آخر، هي أسلوب أو طريقة من طرق ممارسة الديموقراطية والحكم الرشيد، بالإضافة إلى العمل على نهج الشورى في ممارسة الحكم كما هو معروف في التاريخ السياسي الإسلامي أولا والعماني على وجه الخصوص لتمكين النظام الحاكم وترسيخ علاقته بشعبه. جانب آخر من جوانب تمكين العدالة السياسية في هذه الجولات واللقاءات يبرز من خلال اللقاء بمشايخ جميع المحافظات دون تمييز سياسي بين محافظة وأخرى، وهي مسألة غاية في الأهمية السياسية، حيث إن لكل محافظة متطلبات خاصة قد لا تحتاجها محافظة أخرى بسبب الخصوصية الجغرافية أو السياسية وهكذا.
ثانيا: تحقيق الإصلاح السياسي والرقابة المتعلقة بالمؤسسات والإدارات الحكومية: تمكين أي نظام سياسي حاكم لا يمكن أن يتحقق سوى عبر تمكين مؤسسات الدولة، خصوصا الخدمية منها من أدوارها وتعزيز أدائها ومكانتها في الداخل الوطني والخارج الدولي، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق أبدا دون معرفة جوانب الخلل والضعف في تلك المؤسسات، وليس أفضل من المواطن أو العميل للتعرف على ذلك؛ لأنه المستفيد الأهم من تلك الخدمات التي تقدمها تلك المؤسسات والمرافق الحكومية المختلفة، وبالتالي فإن طرح ما يمكن طرحه حيال تلك الخدمات أمام الحاكم وبشكل مباشر يحقق بكل تأكيد أقصى وسائل وأدوات الإصلاح السياسي والإداري.
كما يعد ذلك أداة من أدوات الرقابة الشعبية على أعمال الحكومة، وهي وسيلة وطريقة مناسبة لأي حاكم للاطلاع والتعرف على جوانب التكامل أو الخلل أو الضعف في أهداف ومشاريع التنمية من جهة وأداء مؤسسات الدولة والأداة التواصلية مع المواطنين من جهة أخرى. وبالفعل فإن جميع لقاءات حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم ـ أعزَّه الله ـ بمشايخ المحافظات انصبت بشكل رئيسي وأساسي حول قضايا الإصلاح الإداري وتلبية احتياجات المواطنين الخدمية، وجوانب التكامل في المشاريع الحكومية والربط بين الأعمال التي تقوم بها المحافظات بشكل مستقل ومشاريع الحكومة المركزية.
يضاف إلى ذلك ـ وهو جانب مهم للغاية في العملية السياسية ـ أقصد حديث وتوجيهات جلالته الدائمة والمتواصلة حول الإدارات السياسية الداخلية، أقصد أعمال المحافظات والمحافظين، وضرورة تفقد أوضاع المواطنين ومتطلبات التنمية الداخلية، وتعزيز جوانب الثقة بين المؤسسات الوطنية والمواطنين ومنها مكتب المحافظ والوالي والمجالس البلدية؛ لأن هذه التوجُّهات تقع على رأس أي عملية سياسية ومتطلب سياسي يهدف لتحقيق جوانب الاستقرار السياسي والأمني في الداخل الوطني.
ثالثا: تعزيز الثقافة والتنمية والمشاركة السياسية: فالثقة السياسية تُعد "قيمة أخلاقية ومعيارا من معايير الإيمان بالطرف الآخر؛ أي الطرف القائم على إدارة الشؤون العامة في أي أمة وطنية كالحاكم والمسؤولين والمؤسسات، وقيمة مادية لا يمكن إهمالها؛ لأنها من أبرز وأهم الأسس الإدارية في بناء أي دولة عصرية تسعى لتحقيق الاستقرار والطمأنينة الشاملة، وعندما نقول الإدارية، فإننا نعني بذلك الإدارة المدنية من مختلف جوانبها، سواء كانت السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية، وكل ما يتعلق بإدارة شؤون الوطن والمواطن، والتي تتحرك على أساسها عجلة الإنتاج وتتقدم التنمية إلى المستقبل"(4 )
لذا تُعد الجولات ولقاءات حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أعزَّه الله أـ ومن قبله جميع سلاطين عُمان فرصة أدبية وثقافية لكلا أطراف العلاقة السياسية لتعزيز الثقافة والمشاركة السياسية بينهم، سواء كان ذلك من خلال تبادل المعلومات والأفكار والمقترحات المختلفة أو عبر فتح منافذ الممارسة الحقوقية الديموقراطية أو تعزيز التفاعل والتواصل بين المواطن وحكومته، حيث تساعد هذه الجولات على تعزيز ثقافة الطرح السياسي المباشر مع الحاكم حول مختلف جوانب ومتطلبات التنمية المختلفة وعلى رأسها التنمية السياسية.
كما أن هذه اللقاءات وكونها تسهم في تعزيز الثقافة والتنمية السياسية بشكل عام، فهي كذلك تُعد من وظائف التنشئة السياسية الأفقية ومضمونها أن "الجيل القائم ينقل ثقافته إلى الجيل اللاحق. وثانيهما البُعد الرأسي ومؤداه أن يوجد اتساق بين قِيَم واتجاهات وسلوكيات أفراد الجيل السائد بما يضمن للجسد السياسي قدرًا... من التلاحم والترابط"( 5)
رابعا: ربط وتوثيق التاريخ والفكر السياسي العُماني القديم بالحديث: كما سبق وأشرنا، تُعد هذه اللقاءات والجولات لاصقا تاريخيا بين الماضي السياسي الحضاري لعُمان وتاريخها السياسي المعاصر، وفرصة سانحة للأدباء والشعراء والباحثين والمثقفين ومختلف وسائل الإعلام لتوثيق هذا التاريخ عبر توثيق هذه اللقاءات والجولات السلطانية وما يطرح فيها من حوارات وتبادل للأفكار والملاحظات والمتطلبات بين الحاكم والرعية، كما تُعد مادة علمية وأدبية غنية يمكن نقل تفاصيلها وأحداثها للرأي العام للاطلاع والتعرف على ما دار فيها من قضايا، وذلك مدعاة للتقارب والتآلف بين بقية أبناء عُمان ممن لم تُتح له الفرصة للقاء المباشر بجلالته، يضاف إلى ذلك ما يمكن أن يتحقق علميا وأدبيا من خلال تناول القضايا المطروحة، وغير ذلك في هذه اللقاءات والجولات عبر التحليل والرصد وكتابة البحوث العلمية والأدبية.
ـــــــــــــــــــــــ
مراجع
1 ـ - فاضل محمد عبد الحسين، عمان في عهد الإمام أحمد بن سعيد، مطبوعات وزارة الإعلام، ط1/1991م، ص 70
2 ـ - محمد بن وتي الخميسي، الجولات الداخلية للسلطان قابوس بن سعيد (1970-2000)، إصدار وزارة الإعلام، بدون ط/ 2015، ص 55
3 ـ - لقاء مع معالي السيد سعود بن إبراهيم البوسعيدي وزير الداخلية سابقا بمكتبه بمسقط يوم 13 أبريل 2009
4 ـ -محمد بن سعيد الفطيسي، القيادة السياسية والحكم الراشد في الألفية الثالثة، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، السيب/سلطنة عمان، ط1/ 2016، ص 60-61
5 ـ -د. وليد ميلود، الاغتراب السياسي في الوسط الطلابي، مركز الكتاب الأكاديمي للنشر والتوزيع، عمان/الاردن، ط1 / 2015م ص 88