لفت نظري وأنا أتجول في أروقة معرض الدوحة الدولي للكتاب(1)، رواية "زَمَنُ الخُيُول البيضَاءِ" الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون(2) للروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله(3) وبعد انتهائي من قراءتها اعتبرتها ملحمة فلسطينية حقيقية كُتبت بقلم شاعر مبدع، يمتزج فيها الدم بالتراب تستدعي وقفة وتأمل نحو قضيتنا الأساسية "قضية فلسطين"، عدد صفحات الرواية 514 صفحة ، تبدأ أحداثها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي وكلنا نعرف أن في هذه الفترة بدأ تقسيم الإمبراطورية العثمانية والتي أطلق عليها الغرب لقب " رجل أوروبا المريض" ، وصولاً إلى عام النكبة الفلسطينية ، إنها باختصار حكاية شعب فلسطين. يتوج بها الشاعر والروائي إبراهيم نصرالله مشروعه الروائي الكبير ( الملهاة الفلسطينية ) الذي بدأ العمل عليه منذ عام 1985 والذي صدر منه ست روايات لكل رواية أجواؤها الخاصة بها، وشخوصها وبناؤها الفني واستقلالها عن الروايات الأخرى، يتأمل نصرالله في هذا المشروع 125 عاما من تاريخ الشعب الفلسطيني برؤية نقدية عميقة ومستويات فنية راقية انطلاقا من تلك الحقيقة التاريخية الراسخة التي عمل عليها. وقد استند فيها المؤلف إلى عدة مراجع تاريخية قام بتوظيفها بشكل روائي سلس رائع يحيي التاريخ أبطاله وبطولاتهم والحياة الفلسطينية في عاداتها وبساطتها ونضالها، حقيقتاً جاءت الرواية كأنها أيقظتنا من غفلة وهذا للأسف لا ننكره بسبب جمود القضية الفلسطينية في الوقت الحالي. وإن ما أعجبني في هذه الرواية أنها وثقت الحياة الشعبية والشهادة الشفوية والأهازيج الحياتية للشعب الفلسطيني، علاوةً على تطعيم السرد باللهجة العاميّة الفلسطينية وببعض الأهازيج التي جعلت من "زَمَنُ الخُيُول البيضَاءِ" إرثًا تراثيًا ثقافياً يشتمل قسميه المادي وغير المادي.
استطاع الكاتب اختزال تاريخ النضال الفلسطيني بشخصيات وأحداث مختلفة في قرية صغيرة تدعي "الهادية" موثقاً من خلالها الحياة الفلسطينية الاجتماعية والسياسية في كل تفاصيلها ومواسم محاصيلها ، تحدث عن الطغاة الذين مروا على أبطال الهادية عبر ثلاثة أجيال.ويقول الكاتب في مقدمة روايته هذه : " أنجزتُ العمل على جمع الشهادات الشفوية الطويلة، بين عامي 1985 و 1986م ، حيث قدم فيها عدد من الشهود، الذين اقتلعوا من وطنهم وعاشوا في المنافي، شهاداتهم الحية عن تفاصيل حياتهم التي عاشوها في فلسطين، ومن المحزن أن هؤلاء الشهود قد رحلوا جميعاً عن عالمنا قبل أن تتحقق أمنياتهم الكبرى بالعودة إلى وطنهم" ( 4 )
قَسّم الكاتب روايته "زَمَنُ الخُيُول البيضَاءِ" إلى ثلاثة أبواب : (الريح – التراب – البشر) وكأنها تمثل التوحد بين الخيل الذي خُلق من ريح وبين البشر الذي خلقه الله من تراب وبين الوطن الذي ضمَّ الاثنين معًا. من خلال تلك عائلة العائشة في الهادية . مروراً بثلاثة أجيال الممتدة عبر قرن من الزمان بدءا من مرحلة الحكم العثماني، ومن بعده الاحتلال الإنجليزي، إلى الجهاد المسلح ضد الصهاينة الغاصبين لأرض فلسطين الحبيبة.
الباب الأول – الريح :
ريح انجليزية محتلة تقتلع جذور الخلافة العثمانية الضعيفة من فلسطين هنا تبدأ الرواية .. صوت الريح يتصاعد مؤذنا بنهاية الخلافة العثمانية التي انهارت، كان يجب أن يُحْكِم آخر سلاطين الخلافة غلقَ الأبواب و النوافذ حتى لا تذهب مع ثورة ريح الانجليز المجرمين.!
هنا بين الكاتب كيف أننا نحن العرب كنّا السبب منذ البدء في ضياع الأرض .. فريح الانجليز جاءت لتقتلع جذور الخلافة من أراضي المسلمين ؛ ثم لتعطى الوعد المشئوم لعصابات الصهاينة - المتشردين - ليلوثوا بنجاساتهم طهر أراضي فلسطين الحبيبة، وقد استخلص الكاتب أن النتائج دائما هي محصلة للمقدمات والأسباب.!
الهادية هي موطن الرواية.. يرسم لنا الكاتب فيها الروح الفلسطينية ، ويأخذ بأيدينا لنرى عن قرب ملامح أهل فلسطين وعاداتهم وتقاليدهم .. الهادية هي كل فلسطين حقيقةً .. بلادٌ قريبة من القلب ، لاشئ فيها بعيد ولا شئ فيها غريب.!
" اندفعت الهادية كلها للعمل ، حين تقرر البدء ببناء الدَّير، وبعد أقل من ثلاثة أشهر، كان يمكن أن يُشاهِدَ المرء منه ليلاً ، أضواء سبع قرى على الأقل تنتشر في السهول والتلال المحيطة بالقرية.. كان على ديميترس، المهندس الأشقر ذي الشعر الطويل المعقود كذيل فرس أن يُشير، ولم يكن أهل البلد عاجزين عن التنفيذ بدقة ، وقد بنوا كل بيوتهم بأيديهم .." ( 5 ) والخيول بارزة جدا منذ البداية فهي كما يصفها الكاتب رمز القيم العليا والأصيلة التي تسكن روح أرض فلسطين وأهلها ..
الباب الثاني – التراب :
تراب فلسطين الذي احتله الانجليز ومن ثم إعطاء وعدهم المشئوم للمجرمين الصهاينة، أعجبني الكاتب هنا عندما ذكر "أن أبواب الريح التي فُتحت في آخر عهد العثمانيين هاهي الآن تثير التراث، فمع الاحتلال الإنجليزي بدأت المعركة على " التراب ".. تراب فلسطين !"
"ومع ظهور الخونة والمنافقين ( كالزعامات الكاذبة ) الذين باعوا الأرض واسترخصوا " تراب " الأوطان ... ضاعت فلسطين ، إنه زمن العدوان على الأوطان والإنسان"." كانت القرية قد خرجت قبل أيام عن بكرة أبيها، صلّى الرجال صلاة الاستسقاء، ودرات النساء والأطفال في الشوارع، طالبين المطر من السماء رحمة بالأرض وأهلها، أمسكت أم الفار طاحونة يد وراحت تُلقي فيها بعض حبات الفول، وأمسكت العزيزة ديكاً، ضربته بيدها كي تدفعه للصياح فصاح ، وكان الجميع ينشدون :
"يا ديك يأ أو عرفت أزرق
ريتك في المية تغرق
يا إم الغيث غيثينا
بلَّى شيبات راعينا
راحت إم الغيث تجيب رعود
ما جت إلا الزرع طول البقر"
تدفقت المياه في الشوارع ، فوق السطوح ، وفوق التلال ، التمعت حجارة السنابل كالقناديل في الليل ، وبدا الأمر لسمية حين نظرت إلى الوادي أن السماء تمطر منذ أسبوعين دون توقف. ( 6 )
وتستمر الريح التى تثير " التراب " في الوجوه ..لكن .. يجب ألا ننكسر .. قد ننتصر مرة أو ننهزم مرة .. يجب ألا ننكسر .. فالأمل باقٍ ..فبرجال كـ "خالد" ومن معه بدأت المقاومة و الدفاع عن " تراب " الوطن في وجه المغتصب ..
فمع أمثال البطل الذي اعترف العدو (بترسون) بقوته حين قال لحظة قتله :
"هذا رجل شجاع من العيب أن نتلقى التهاني بمناسبة موته" ، ثم قال وهو يحدق في وجوه جنوده: كان رجلا شريفا، من أين لي بعدوّ مثله بعد اليوم؟؟! " ( 7 )
الباب الثالث – البشر:
يختم الكاتب روايته بالفصل الأخير حيث واصل سرد الحكاية الممزوجة بالألم والحسرة ، ففي هذا الباب تُسكب العبرات على حال أهلنا في فلسطين ، إنه زمن العصابات اليهودية والمستوطنات والنكبة، العصابات اليهودية تعتدي وتقتل وتدمر .. لا يفرقون بين البشر والشجر والحجر .. يدعمه الإنجليز والطابور الخامس في بلادنا ! المقاومة تشتد .. لكن الخيانة أعظم في بلادنا. عمليات التهجير الإجبار ي و الطرد ... وما زالت الدموع تنسكب من العيون لم تتوقف حتى وقتنا الحاضر .
" ينهي الكاتب روايته بنشيد سميّة وهي تودّع قبور زوجها وولديها وأحفادها ، والحرائق تنهش القرية الهادية، بعد غروب الشمس بقليل تحركت الشاحنات ، وسمية في عتمة عربة التهجير من الأوطان فتقول :
عَمَّي يا أبو الفانوس
نوّر لي ها العتمة
خوفي الطريق يطول يابا
ويطول معك همّي
ويطول معاك همّي
انحدرت شلالات الدمع على وجه منيرة وأحفادها وعفاف وأولادها وحسين وأولاده وأم الفار ، الذين كانوا قد تجمعوا في صندوق تلك الشاحنة البيضاء..
دوت عدة انفجارات ، التفتوا ، فإذا بالنار تلتهم عداداً من بيوت القرية. حدقت العزيزة التي كانت تبكي بصمت مسندة وجهها إلى الحافة الحديدية للصندوق . كانت إحدى القنابل قد سقطت في بيت أبيها ، اندلعت النار فيه وسقطت قنبلة أخرى فاشتعل برج الحمام..
راحت العزيزة تراقب النار تتصاعد ملتهمة البرج وما فيه، وعدها رأت ذلك المشهد الذي لن تنساه أبداً..
كان الحمام يطير مُحترقاً مسافات لم تفكر يوماً أن حماماً بأجنحتة مشتعلة يمكن أن يبلغ نهايتها، وحيثما راح يسقط في البساتين والكروم والسهول المحيطة كانت نار جديدة تشتعل .. وحينما وصلت العربات الى تلك النقطة العالية التي تتيح للناس مشاهدة الهادية للمرة الأخيرة ، كانت ألسنة الحرائق تلتهم الجهات الأربع " ( 8 )
وطال الهم يا سمية ل64 عامًا.. لكننا -إليها- بوعد الله مهما طال الزمن عائدون!.
إنها ليست حكاية عائلة عاشت حياة طبيعية في قرية صغيرة؛ إنها في الحقيقة حكاية وطن ما زال يضيع، رواية لا تستطيع اختزالها بكلمات،حكاياتها تأسرك في ريحانة الأدهم وتجبر الهباب وحمدي ، ومهباش حمدان ، ومضافة الحاج محمود ، وحكمة ناصر العلي ، وعينا سمية ، ومنديل ياسمين ، وشجاعة عزيزة ، وخفة دم منيرة، وقلب أم الفار، وراديو شاكر المهنا ، وطفولة كريم صبري النجار، وذكاء ناجي ، وشقاوة عفاف، والبرمكي ،وفاطمة وأخو خضرة .

مما راق لي واقتبسته من" زَمَنُ الخُيُول البيضَاءِ " :
- إذا خسر اليهود فإنهم سيعودون إلى البلاد التي اتوا منها، أما إذا خسرنا نحن فسنخسر كل شيء
- نحن ثوّار ولسنا قتلة ( الشيخ خالد وهو يُطلق الأسرى)
- لست خائفا من أن ينتصروا مرة وننهزم مرة، أو ننتصر مرة وينهزموا مرة ، أنا أخاف شيئا وأحدا أن ننكسر إلى الأبد ؛ لأن الذي ينكسر للأبد لا يمكن أن ينهض ثانية .. قل لهم : احرصوا على ألا تُهزموا إلى الأبد "
- الأنيسة : صرنا مش عارفين حالنا وين ، طاسه وضايعه . الأنجليز ينهشوا فينا واليهود ينهشوا فينا ومشايخنا ينهشوا فينا.. وكلمة تأخذنا وكلمة تودينا !!
- "قال الحاج خالد: …انا لا أقاتل كي انتصر، بل كي لا يضيع حقي "
- " إذا ما آمن الرجال أن أعمارهم أطول من عمر الإمبراطوريات ،سيعمرون أكثر منها.
- "لم يحدث أبداً أن ظلّت أمة منتصرة إلى الأبد .. لا يمكن لأحد أن ينتصر إلى الأبد "
- "في زمن الخيول الأصيلة تمثل الفلسطيني الحزين اذا سُلب من أرضه يظل يحن إليها ويبقى كالخيل في كبريائها لا يحلو له سوى منبته الأصيل الذي يليق به كحر عزيز"

الهوامش والصفحات:

1- معرض الدوحة الدولي الخامس والعشرون للكتاب ، يناير 2015م.
2- تأسست الدار العربية للعلوم في بيروت عام 1987م تقوم بترجمة ونشر أهم وأحدث الكتب الأدبية العلمية التي تصدر في العالم.
3- إبراهيم نصرالله من مواليد عمّان، الأردن،عام 1954 من أبوين فلسطينيين، هُجِّرا من أرضهما (قرية البريج مدينة القدس)عام 1948م، درس في مدارس وكالة الغوث في مخيم الوحدات، وأكمل دراسته في مركز تدريب عمان لإعداد المعلمين. ، نال سبع جوائز عن أعماله الشعرية والرؤاية .
4- إبراهيم نصر الله ، زمن الخيول البيضاء، المقدمة ، ص 5
5- إبراهيم نصر الله ، زمن الخيول البيضاء، الباب الأول : الريح ، نظرة مختلفة ، ص22
6- إبراهيم نصر الله ، زمن الخيول البيضاء، الباب الثاني التراب، جسر العاشقين، ص 246
7- إبراهيم نصر الله ، زمن الخيول البيضاء، الباب الثاني ، التراب .
8- إبراهيم نصر الله ، زمن الخيول البيضاء، الباب الثالث ، البشر، عتبات الجحيم، ص 506

رؤية ـ فهد بن محمود الرحبي