العلاقة بين الفصحى والعامية علاقة لغوية اجتماعية ، نتجت عن تقسيم المجالات والوظائف بينهما في التعبير عن الحياة في مختلف مظاهرها ، إذ اكتفت الفصحى بالتعبير عن مجالات معينة ، كالدِّين والآداب والعلوم والأمور السياسية والإدارية وبعض المظاهر الثقافية والفنية ، واقتصرت العامية على التعبير عن جوانب الحياة اليومية ؛ في البيت والشارع والسوق والمصنع وبعض الأماكن الترفيهية وما إلى ذلك.
وقد أدى هذا التقسيم في الأدوار ، بمرور الزمن ، إلى ظهور هوّة شاسعة بين هذين المستويين اللذين كانا يمثلان أصلاً واحداً دون أي مجال للشك ، كما بيّنت ذلك مختلف الدراسات. وتتضح هذه الهوّة في عدم قدرة أي شخص أن يتكلم الفصحى بطلاقة ودون أخطاء عن أمور الحياة اليومية، كما لا يستطيع هذا الشخص أن يعبّر عن القضايا العلمية والفكرية بالعامية ، وهو ما جعل محمود تيمور (ت1973م) ، وهو من كبار الأدباء ، وأحد أبرز المجمعيين في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، يصف الصراع الدائر بين المدافعين عن الفصحى وأنصار العامية ، بكون الفئة الأولى تستعمل العامية للدفاع عن الفصحى في المواقف الخطابية، وتدافع الثانية عن العامية بالفصحى.
ويعني ما سبق أن الفصحى لغة مكتوبة ، وليس لها تقاليد اللغة المنطوقة في هذا العصر على الأقل، وأن ما نسمعه في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ، من هذا المستوى ما هو إلا فصحى مقروءة، ويحوي هذا المستوى اللغوي كذلك تراثاً حضارياً كبيراً ، يشترك فيه كل العرب ، بل جلّ المسلمين في بعض جوانبه. أما العامية فهي عكس الفصحى ، لكونها لغة منطوقة ، ولم يسبق لها أن كتبت بكيفية منمّطة ، كما أن هذه العامية في حقيقة الأمر عاميات ، لكل ناحية أو بلد أو إقليم في العالم العربي عامية خاصة به ، غالباً ما يطلق عليها مصطلح اللهجة ، وتتميز كل واحدة منها بمجموعة من الخصائص الصوتية والإفرادية والنحوية والأسلوبية.
وقد حدث بعض التطوّر على هذه الوضعية ، خلال القرنين الماضيين ، إذ استطاعت الفصحى أن تقتحم بعض مجالات العامية ، ويظهر ذلك في دخول عدد من الكلمات والتراكيب الفصيحة في لغة المعاملات اليومية، نتيجة انتشار التعليم ورواج وسائل الإعلام ، كما حاولت العامية أن تلج كلياً أو جزئياً بعض الميادين المخصصة للفصحى ، ويتضح ذلك جلياً في لغة المسرح ولغة بعض أقسام القصة والرواية. وظهر أيضاً ـ نتيجة التفاعل بين هذين المستويين اللغويين من العربية ـ مستوى ثالث ، يؤدي وظائف اللغة المنطوقة المشتركة بين كل العرب ، أطلقت عليه مصطلحات عدّة ، منها اللغة الوسطى واللغة المهذّبة ولغة المتعلمين وهي مزيج بين الفصحى والعامية.
ويمكن أن نستنتج من خلال هذا الوصف المقتضب حول العلاقة بين الفصحى والعامية ، أنه لا يمكن الاستغناء عن أحد هذين المستويين من التعبير ، وبالتالي فالانتصار للفصحى وحدها ، كما هي عليها الآن ، أو الدعوة إلى العامية بمفردها موضوع فيه نظر ؛ لأن للفصحى كثيراً من المزايا تفتقر إليها العامية، كما للعامية عدد من المزايا غير موجودة في الفصحى.
إننا لا نستطيع أن نسمّ ما يجري بين الفصحى والعاميات بأنه صراع ، وإنما هو شذوذ ، وخروج عن الأصل ، لا يصعب على الناظر معرفته ، ولا مقاومته ، ولا إصلاحه ، ولا ردِّه إلى وجه الصواب والجادّة؛ لأن اللغة الموحّدة ما زالت حية في حياتنا الثقافية ، وفي كتاباتنا ، وفي مظاهر الرقي والتقدّم ، وهي عنوان الثقافة والعلم ، والحاجة إليها قائمة ؛ لأنها من أهم أسس تحقيق هويتنا ، غير أننا بحاجة إلى شيء من الجهد ، ودعم القرار بقرار سياسي ، تتمثّله قدوة حية ذات تأثير على الجماهير الشعبية.
إن الحديث عن صلة اللهجات العامية أو لغة العامة بالفصحى ليس وليد العصر ، بل تطرّق له بعض من كتب في التاريخ والأدب في العصور الخالية ، من أمثال ابن السكيت (ت 244هـ) في كتابه إصلاح المنطق ، ومحمد بن الحسن الزبيدي ( ت 379هـ ) في كتابه لحن العامة ، والحريري (ت516هـ) في كتابه درة الغواص في أوهام الخواص.
وقد لمس الإمام علي بن حزم الأندلسي تلك الهوة بين الفصحى والعامية فقال في كتابه الإحكام في أصول الأحكام : " ونحن نجد العامة قد بدّلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً ، وهو في البعد عن أصل الكلمة كلغةٍ أخرى ، ولا فرق ، فتجدهم يقولون في العنب : العينب ... وإذا تعرّب البربري فأراد أن يقول : الشجرة قال : السجرة ... فمن تدبّر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا ، من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان ، واختلاف البلدان ومجاورة الأمم ، وأنها لغة واحدة في الأصل ". كما سمّى ابن خلدون (ت 808هـ) لغة عصره لغة الجيل ، وقارن بينها وبين اللغة المضرية.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
كلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]