رؤية ـ حسام محمود:
ليس هناك شك أن السيرة الأدبية للأديب الفذ توفيق الحكيم لا تقتصر علي النشأة والتكوين ومسار حياته فقط ، ولكن تتطرق إلي صورة العصر , وإلي المؤثرات المناخية والفكرية التي نشأ من خلالها أدب الحكيم . وتعتبر قضية الحضارة من الملفات المهمة التي عالجها الحكيم وتفرد بها وشغلت عقله ووجدانه خلال حياته فاكتشف عالم الفنون منذ وضع مؤلفه عودة الروح حتى خرج منشوره المسمي عودة الوعي ثم دعوته إلي الحياد الحضاري . ولعل الحكيم قد ساهم خلال نصف قرن في إثراء الأدب العربي بنماذج من مسرحياته ورواياته التي استشف منها المثقفون والمتابعون العصر .
حياة زاخرة
يشير الكاتب الدكتور ناجي نجيب في مجمل مؤلفه إلي الظروف التي عاشها الحكيم والتي شكلت ثقافته وروت فكره , حيث تكون وجدانه من خلال تفاعله مع الزمان والبيئة المصرية الأصيلة , ورحلته إلي حضارة هذا القرن تحت عنوان زهرة العمر , وكذلك في عصفور من الشرق , وعهد الشيطان , وتحت شمس الفكر , وفي برج العاجي , حيث كانت تلك مؤلفاته التي شهدت علي ميلاده كأديب وروائي وكاتب ونابغة في عصر امتزجت فيه الفنون مع السياسة والاجتماع , ويرتبط فكر الحكيم بالفن في سماء الحضارات الرفيعة والمسائل القومية . ومصدر قوة الأديب توفيق الحكيم ينبع بوضوح من الخصوصية الذاتية والتميز لرواياته وأعماله والارتفاع عن الموروث والعالم المحيط , فسجن الطبع عند الحكيم هو الحياة ذاته ورواياته عن نشأته تعكس ثراءه الأدبي , وفكره المتدفق خاصة أن الأديب الفذ كان متزنا في معالجته لقضايا العصر يميل للاجتهاد والمثابرة مهما تعرض لعراك وصراع فكري وأدبي مع نظرائه ومنافسيه علي الساحة . ويلاحظ أن المتابع لأعمال الحكيم إلحاح قضية المرأة عليه وتغير إحساسه بها بانصرام الشباب ، والحق إننا نستطيع أن نعرف الكثير عن الحكيم من خلال مسرحياته وهو شيء نادر بين الكتاب المسرحين في مسرحية شهر زاد ثاني مسرحياته الذهنية تحرر شهريار من مبدأ المرأة واستغني عنه بالفكر والتأمل , فصارت شهر زاد لا تعنيه في شيء حتى ولو كأنثى وزوجة , وإنما يشغل شهريار كسر المجهول , ولغر الغامض وراء تصرفات الناس من حوله , حيث لا يعنيه بعد أن أدار عقله للنزوات والشهوات بقدر الفكر . لقد ظل الحكيم يرفض في الأعماق فكرة الأبوة ، ولكن هذا الجفاف العاطفي هو محصلة نشأة الحكيم الأولي وانغلاقه علي عالم الأدب والفكر الرفيع ثم حرصه الشديد في أمور المال , والحيطة من النصابين لدرجة استخدام الصكوك الشروط المكتوبة في كاف المعاملات أيا كان .
ذكريات فارقة
ولعل إجلال الناس للأدب والأديب أو عشقهم للكتابة ليست مهنة تمتهن ولابد في النهاية من وظيفة أو ما في حكمها , حتى لا يكن كارثة للأديب , هذا وصف الحكيم لموقف الناس والحياة من الأديب وهو يتفاعل مع العالم حيث حصل بالكاد علي اجازة الحقوق , وتعذر التحاقه بالسلك القضائي ليسافر فرنسا في يوليو عام 1925 لمواصلة دراسة القانون , لكن الحكيم لم يوفق في الحصول علي الدكتوراه من فرنسا , وتم تعيينه في النيابة الأهلية عام 1929 في طنطا , ومنها توغل في أقاليم مصر من دمنهور إلي كوم حمادة إلي إيتاي البارود إلي دسوق إلي فارسكور, فكتب رائعته مذكرات نائب في الأرياف التي شهدت علي بزوغ فكر الترحال لديه كروائي . في عام 1934 انتقل الحكيم إلي وزارة المعارف بوظيفة جديدة , وهي مفتش تحقيقات الوزارة ثم تحولت هذه الوظيفة إلي إدارة التحقيقات فأصبح مديرا لها , وانتقل بعد ذلك لإدارة التمثيل والموسيقي , ويري الحكيم أن شخصية الأديب هي وظيفة فنان الفكر الذي يعارض قيود الوظيفة العامة الروتينية . وفي عام 1939 نقل الحكيم مديرا لإدارة الدعاية والإرشاد لشئون المسرح والموسيقي والسينما والإذاعة والموالد بوزارة المعارف . وظل الحكيم في هذا المنصب حتى استقال من العمل الحكومي , وانتقل إلي أخبار اليوم عام 1944 , وسرعان ما أصبح من نجومها من خلال أحاديثه من العصا عصا الحكيم ، وخلال ما كانت تنشره عنه وتنقله من طرائف وصور كاريكاترية . وكان في حياة الحكيم أزمة خلفها إدراج إسماعيل القباني وزير المعارف لاسمه ضمن الموظفين غير المنتجين، وحين عرض الأمر في اجتماع مجلس الوزراء إبان ثورة يوليو اعترض عبد الناصر منوها بمكانة الحكيم كأديب كبير في مصر والخارج مما اضطر الوزير إلي الاستقالة , وظل الأديب في منصبه مديرا لدار الكتب إلي أن عين عام 1956 عضوا متفرغا بالمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية , وحصل علي قلادة الجمهورية , وفي 1959 أخيرا ممثلا دائما للجمهورية العربية المتحدة في اليونسكو بباريس , ثم عاد لمنصبه بالمجلس إلي أن أحيل علي المعاش عام 1961 ثم انتقل علي الأثر إلي جريدة الأهرام كعضو مجلس الإدارة .
بناء الأديب
سار الحكيم إلي الفن قبل الرحلة إلي فرنسا كان أشبه بالفيلم السريع عن تطور البيئة الثقافية والأدبية و موضوعات القراءة في الوطن العربي . فنشأت لدي توفيق الحكيم قدرة خاصة علي الإطلاع ومراقبة الحياة وتصوير الشخصيات الروائية والمسرحية عبر خيال إبداعي يصنف في علم الأدب علي كونه عقد فريد من تراث خالد. بدأت قراءات الحكيم بالقصص الشعبية , وروايات المغامرات , والروايات الرومانسية التي كان يعربها الشوام عن الأدب الأوربي . وانتقل أديبنا إلي الأدب الفرنسي بعد أن انخرط في دراسة لغة هذا النوع من الأدب , وانتقل إلي الاغتراف من أناتول فرانس , والفريد موسيه , وماريفو , وغيرهم من المؤلفين , بعد أن بات زبونا مستديما عند محلات الكتب القديمة . ثم ركز علي أهم المسرحيات الفرنسية والأوروبية , ولاحظ القدرة الفائقة فيها علي الإبداع الممزوج بتشخيص النصوص الكاملة , ورأي الجهد من أجل التمثيل وليس المال . وتردد كاتبنا خلال حياته بمراحلها علي مسارح الدولة يغترف من النصوص المسرحية التي تتحدث عن عشق الفن الأوربي الواعد والوافد من الغرب . فالتأليف المسرحي عند الحكيم تقيده مطالب المسرح القائم , حيث يري أن هناك تباينا ضخما بين النصوص المسرحية المترجمة وبين قدرات الممثلين علي استيعاب هذه النصوص . كما أن هناك تباينا ضخما بين الكتاب المسرحيين وطموحاتهم وبين المسرح القائم في العالم العربي . لكن الهوة ما تزال بين النص المسرحي الأدبي وبين المسرح الواقعي تضيق وتتسع وفقا للثقافة وأيضا للسياسة الاجتماعية والاقتصادية للدولة , خاصة أن المجتمعات العربية لا تمتلك تراثا مسرحيا أو دراميا , وإنما قد نقلت هذا الفن في إطار نقلتها لعصر نهضتها الحديثة . كانت لغة الحوار لفترة طويلة , وما زالت من القضايا الحرجة في الأدب العربي الحديث التي اختلف حولها الكتاب ، واختلف الأمر فيها بين النظرية والتطبيق ، ومن المعروف أن قراءة المسرحية أصعب من قراءة القصة ، فالنص مركب وموزع في أدوار يتطلب قدرا من التريث والتأمل . وعلي الرغم من ذلك فقد كانت وما زالت صيغة الحوار الفريد في أعمال الحكيم أهم أسباب نجاحه ورواج مسرحياته بين القراء ، ويرتبط هذا الحوار الشكل المعماري أو البنية الفنية التي يصب فيها الحكيم مسرحياته، ويعبر الحكيم عن هذا الترابط بين مسرح الفكر وبين الحوار والفن .