د. سعدون بن حسين الحمداني:
يُعد الماء سيد الحياة، حيث يشكل أكثر من 70% من حجم الكرة الأرضية، وهو سائل شفاف ليس له طعم ولا رائحة، وصيغته الكيميائية (H2O)،
قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم:(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء ـ 30)، ورغم أهميته فقد أعطانا الله سبحانه وتعالى حكمة كبيرة في التواضع من الماء، حيث رغم أنه سيد الحياة، إلا أننا لم نرَ الماء يسير إلى الأعلى، وإنما يسير على الأرض المستوية والمنخفضات، عبرة لنا بأن الإنسان مهما كان منصبه في القيادة، عليه أن يكون مثل الماء بسيطا، وأن يجلس مع الأقل منه ليستمع إلى الآراء والمقترحات والمشاكل ولا يتكبر على زملائه في العمل؛ لأن لدينا حكمة من النهج الرباني بأن الماء الذي هو أغلى وأهم شيء بالكون، إلا أنه يسير على الأرض المنبسطة، وينزل إلى المنخفضات، ولا يصعد إلى المرتفعات ليجلس على القمة.
تختلف المدارس الدبلوماسية الأجنبية حول إتيكيت صفة التواضع وكيفية التعامل مع كافة شرائح المجتمع بهذه الصفة ونستغرب، بل كلنا تعجب عندما نرى رئيس وزراء إحدى الدول الأوروبية وهو يتجول بمفرده في الأسواق العامة وكذلك وزراؤه.
تحث هذه المدارس على صيغة التواضع، والتعامل مع الناس بكل ليونة وابتسامة وإحساس وبعيدًا عن التكبر، حيث بدأت المدارس الأوروبية بنحو خاص بعد الحرب العالمية الأولى تدريس مادة (صفة التواضع) وهي التعامل مع الناس بلين ورأفة وبأعلى درجات التواضع، ومساعدة الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدة بكل رحابة صدر. وفعلًا نجحت هذه المدارس في أن تكون أوروبا ـ على وجه الخصوص وبالعصر الحديث ـ قمة في التواضع وفي التعاملات الرسمية والاجتماعية، وأي زائر لأوروبا يلاحظ ذلك؛ لأنها اعتبرت من أهم أعمدة نجاح وتميز القيادة والإدارة.
أصل كلمة تواضع: مأخوذ من تواضعت الأرض، أي: انخفضت عمَّا يليها، فالتواضع يدل على خفض الشيء، ومفاهيم القيادة تركز كثيرًا على تمتع القائد والشخص المسؤول بهذه الصفة؛ لكونها القاعدة الأساسية للاطلاع على المشاكل والمقترحات والتي تؤدي إلى الوصول إلى بعض النتائج الإيجابية المميزة في العمل.
إن أصل وتاريخ التواضع ومنبع مدرسته هو الدين الإسلامي الحنيف، ورسولنا الكريم هو المعلِّم الأول لهذه الصفة الرائعة بالحياة قال تعالى:(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان ـ 18)، وإن الله سبحانه وتعالى يحث البشرية في هذه الآية الكريمة على التواضع وعدم التكبر مهما كان في المنصب والمكان، حتى طبيعة المشي ألا يكون مغرورًا ويرى نفسه أنه هو الأفضل والأحسن، قال تعالى سورة الزمر (72): (.. فَبِئْسَ مَثْوَى المُتكبِّرِينَ)، حيث حذَّر وتوعَّد المتكبرين وغطرستهم على الناس بالنظرة الفوقية التي يتباهون بها، وقال تعالى لهؤلاء المتكبرين والمتغطرسين على الناس في هذه الآية الكريمة سورة الإسراء (الآية 37): (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا) وعلى هؤلاء المتكبرين مراجعة ومحاسبة أنفسهم بماذا فعلوا في حياتهم؟ ولماذا هذا الاستعلاء على الناس، حتى أن الأنبياء جمعيهم كانوا في غاية التواضع؟
إنَّ صفة التواضع تُعد من علامات كاريزما القائد المميز والناجح، وكذلك المدير الكفؤ؛ لأن بصفة التواضع سوف يجلس ويحاور موظفيه بالأعمال اليومية بما فيه من مقترحات ومشاكل وكيفية النهوض بالعمل للوصول إلى أعلى درجات الإنتاجية بعيدًا عن زرع الأشواك في طريق الموظف البسيط الذي لا حول له ولا قوة، وبالتالي يبدأ فصل التكبر والأنانية والتي سوف يجني منها الكراهية وعدم الحصول على إنتاجية عالية بسبب السلوك الأناني وغير المهني، لذلك تُعد صفة التواضع من أهم مفاهيم وأعمدة القيادة الرشيقة الناجحة حيث الاستماع إلى القاعدة من موظفي الدائرة، بالإضافة إلى التواصل مع الجمهور من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والرد عليهم بكل أدب ومحبة واحترام، وصولًا إلى بناء استراتيجيات طيبة لعكس أفضل صورة حرفية للقيادة الرشيقة والإدارة المميزة.
كان رسولنا الكريم يجالس الفقراء والبسطاء في أزقة الطرقات ويتبادل معهم أطراف الحديث ليكون قريبًا منهم وهو سيد وخاتم الأنبياء، حيث قال رسولنا الكريم:(ما تَواضع أحد لله إلَّا رفعه(، وإنَّ التواضع هو السكينة والوقار ومحبة الجميع وعدم التكبر عليهم حتى جاءت الآية الكريمة لرسولنا الكريم على طبيعة تواضعه سورة القلم (الآية 4):(وَإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم) فقد كان خاتم الأنبياء المَثل الأعلى للتواضع بأقواله وأفعاله، فكان (صلى الله عليه وسلم) يجيب دعوة العبد وينصت للأُمَّة، فلا ينصرف عنها حتى تنصرف، ويجلس مع أصحابه كأحدهم، بل يشاركهم العمل ما قلَّ أو كثر. وقد وَصف أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ رسولنا الكريم فقال: (متواضعًا في غير مَذَلة)، وعن عبدالله بن مسعود عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).
وفي الختام علينا نحن أن نجعل من قرآننا الكريم قدوة لنا في التواضع، ومن حياة رسولنا الكريم منهاج حياتنا اليومية، ونبدأ من عوائلنا، مرورًا بمدارسنا وجامعتنا ودوائرنا الرسمية، ومن وزيرنا إلى أقل موظف أن يكون التواضع رداءنا وفكرنا ونخدم الجميع دون استثناء؛ لأن القرآن الكريم يحثنا على ذلك، وكذلك المدرسة النبوية الشريفة، ولا نتكبر على أي شخص، ونبتعد عن النظرة الفوقية، ونتعامل مع الجميع بكل ليونة ورحابة صدر وتواضع؛ لتحقيق أفضل النتائج بالقيادة والإدارة.