معوذة أولى
ربما يوم كباقي أيام الظلام هو ذاك الذي تقاسمت فيه صروف القافية الأخيرة من رماد السفر.
تلك المفردة التي تغنت بها الحان وترجمتها كلمات سافر.
خروجه ذاك المساء ليس عادة ولا طارئ من مخابرة تنبئه موعد فقط ساقته قدمان إلى الفضاء دون التعنون بظلال . اقتنصه ساحر القرية فغرد مع سرب المغايبة . ظل طريق بيته في ظاهر الخلق وفي ظلام السحر هو يرى كل الحكاية وهم لا يبصرون إلا هي.. قالوا إنها ستموت الآن أو بعد ساعة إن طال الأمد لكنهم بعد ما عادوا من مواراة جذع جاف متصلب شبه لهم انه هو وجدوها تعد القهوة للمعزين…!


معوذة ثانية

قيضه متعب هذا السنة بعض الشيء فجميع فروضه حملت بالغلال.. كل فرض منها تنحدر من قمته ثماني من العسق الثقال والتي إن ضربتها في أربعين تكون المحصلة جهدا مضاعفا في غياب البيدار المعين له ..
كان يغيب طوال نهاره بين تلك النخيل ولا يعود إلا مع الأصيل.. عودته ذاك النهار كانت كغير العادة . على مشارف بيوت القرية تناهى لمسمعه ولولة نسوة وبكاء صغار. إنه نشيد الموت تيقن من ذلك فقلما يسمع مثل هذا في غير الموت . لكن! من الضحية هذه المرة ؟؟ ساءلته نفسه. تراءى له من بعيد سراب امرأة توشك اقتناصه وهي تهوي بقدميها المتعبتين على الغبار سالكة طريقا يفضي للمقبرة. عرف هويتها سلامة..!
استوقفها سائلا: خير موه مستوي في البلاد .
- عوين حرمه غايبه.
- من هي؟؟
- ما أعرف وحدي. وانطلقت كأن أغلالا تقودها …!
تعجب منها ليست سلامة التي يعرفها الجميع بقلبها الطيب والواسع لآلام البشرية ترد على السائل بهذا الجفاء..!!
دخل القرية متوجها نحو مصدر البكاء والعويل . تلبسه العجب لمعرفته المصدر .هو ذاته بيت سلامة زوجة الشايب سويلم. دغدغت شعيرات فكره جراثيم الأسطورة!!
الجميع هناك يتألم لألم المفجوعين كعادة أهل القرى جسد واحد في السراء والضراء.
ساءلته نفسه: كيف المصاب في بيتها وهي ذاهبة في الفضاء..؟!
تمعن في أعين الموجودين باحثا عمن يسأله تفاجأ بها متكئة على نقصة بعيدة عن الجميع انتابته قشعريرة رعب لكنه قرر التوجه إليها وسؤالها:

- من غايب؟؟
- أجابته بنظرة مأفونة بسعادة مبطنة: ما عندك خبر سلامة مسكينة غابت.
- موه تقولي ؟؟ تو لاقنها في الطريق رايحه المال!!!
- ردت منتفضة: آه؟؟؟
- فهمها فلم يكمل معها وانصرف عنها.. لكنها لحقت به وأسرت له في أذنه قائلة: عبيد ما كنك شفت شي ولا تراه بنتك أتلحقها..!
تلبسه الخوف فشق جمهرة المشيعين متوجها إلى بيته .. دفع الباب دخل فإذا زوجه تنتحب على ابنته وهي تحتضر … عاد إليها مسرعا.. متكئة على نقصتها وجدها.. أخذ يدها قبلها متوسلا إن تعيدها إليه قاطعا عهدا بألا ينطق بحرف وكان على استعداد أن يقبل قدميها لولا أنه سمع طفله الصغير يهمس له بان أخته قد انتفضت حية سائلة عنه..!

معوذة ثالثة

و صربوخ هو الآخر بقية من بقايا دمار غربة الوطن الأم التي باعت أطرافها للغريب.. الجميع يمتعض من محياه .. إن سلك الشرق سلك الكل الغرب والعكس إن استوطنت القافية اعوجاج الحياة.. قدره الذي ألقى به في هذه القرية لم يكتف بتلويح وجهه الذي إن رأته حاملا أسقطت جنينها بل حرمه حتى من سقف يلتحف به على فراشه المكون من تربة هي سريره وتربة هي مخدته.. الصغار اعتبروه شيطانا من قصص الجدات فكانوا يرجمونه بالحجارة كلما سنحت لهم دقائق النهار، البعض اعتبره من الأموات العائدين ولكن بلغة العذاب. الكل يحتقره الكل يشمئز من صفحة وجهه كان إن صادفه بشر _ وهو لا يعتبر اجتماعيا منهم_ كان يلبس يومه ثياب التشاؤم حتى غدت عادة إلا هي !.. هو بالنسبة لها رواية منسية في دهاليز العذاب المكفّن رحمة.. تذكر أول لقاء بينهما بقت جامدة لم تستطع حراكا حتى مر حينها أسر في حلق أذنها سوار مذهبا قائلا: ستعودين بما ذهبت من اجله، بعد سبع سنوات عادة محملة بدرجة البكالوريوس في الطب.. صادفته أخرى فعلق تعويذته الثانية قائلا: سترسم أناملك لوحتي.. بعد عامين عادت أخصائية جراحة تجميل وتقويم.. صربوخ كان يعرف ما سيكون مستقبلها .. قررت أن ترد له الجميل تسللت إلى صومعته واقتادته إلى المشفى الذي تعمل فيه بالمدينة وحدد موعد العملية. بعد خمس سنوات من اختفاء صروبوخ دلف رجل ذو وجاهة إلى مساكنهم حاملا حقيبة سوداء .. ذهب بها إلى الشيخ.. أعطاه إياها مقابل الخربة التي كان يقطنها صربوخ والمزارع المحيطة بها. استقر في القرية بعد ما عمّر أرضه .. حلمت به كل نساء القرية .. تمناه كل أشباه الرجال أن يكون خليلا لهم.. طمع الشيخ فيه بعد ما عرف حجم ثروته.. أسر له بأنه يريد أن ينكحه إحدى ابتنيه رفض الغريب.. وقرر الرحيل حاملا في جيبه عنوان مشفى وذكرى وطن غيبته الرياح...!

ادريس بن خميس النبهاني