د. أحمد مصطفى أحمد:
لا شك في أن الحرب الإعلامية حول العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، سمِّها غزوًا أو ما تريد، تبدو أهم فعلا من الوقائع على الأرض. ومع الكثافة غير العادية للمراسلين، والإعلام الغربي عموما، في أوكرانيا إلا أن الرواية التي يتم تقديمها للعالم عن الحرب هي التي تحسم المواقف أكثر من الوقائع الحقيقية التي قد تكون مغايرة تماما للرواية الإعلامية تلك. شاركت هذا الأسبوع في ندوة بالفيديو للجامعة الأميركية بالقاهرة عن الإعلام وحرب أوكرانيا أدارها الأستاذ المشارك بالجامعة خالد عز العرب. ومنذ البداية كان واضحا أن الندوة هي في سياق النمط الغربي في كل ما يتعلق بالحرب الروسية في أوكرانيا، رغم محاولات مدير اللقاء أن يبعدها عن ذلك ويدفع باتجاه منظور شرق أوسطي عربي للتغطية الإعلامية للحرب. لكن المتحدث الرئيسي في الندوة، أستاذ مساعد الصحافة جابرييل كوزنتينو، كان ينطلق من استخلاص اقتنع به وهو أن أوكرانيا كسبت الحرب الإعلامية وخسرتها روسيا.
رغم أن ذلك يبدو حقيقيا فعلا لأسباب كثيرة، لكنه كأكاديمي غربي يعتمد "الرواية" الغربية تماما ـ وإن مع بعض الشك الأكاديمي ـ كان كل همه محاولة سبر غور فشل "الرواية" الروسية رغم ما يردده الغرب عن تطور "حملات التضليل الإعلامي الروسي للتأثير في الديموقراطيات الغربية". وإن كان السفير كريم حجاج، رئيس قسم السياسات العامة في مركز دراسات الشرق الأوسط بالجامعة، أكثر موضوعية في تناوله ليس فقط للرواية الإعلامية عن الحرب من طرفيها، ولكن أيضا لأثر ذلك على القرارات السياسية في الجانبين وعلى الرأي العام بعيدا عن روسيا والغرب.
ربما تكون الخلاصة التي استند إليها أستاذ الصحافة بأن أوكرانيا كسبت حرب الرواية الإعلامية صحيحة تماما، على الأقل غربيا ـ وبالتالي حول العالم الذي ينقل عنه الغرب أغلب المعلومات والأخبار والتحليلات. كما أن قاعدة أن "الضحية الأولى في أي حرب هي الحقيقة" لم تعد ذات الأهمية التي كانت عليها من قبل بعد تطور وسائل الاتصال وانتشار الإنترنت وطغيان وسائل التواصل الرقمية. بدا ذلك واضحا منذ حرب الخليج وظهور طريقة التغطية الحية التي برزت فيها شبكة "سي إن إن" حتى أصبحت روايتها الإعلامية عن الحرب هي التي تشكل الرأي العام وتؤثر في قرارات السياسيين بغضِّ النظر عن الوقائع على الأرض. وبعد ذلك بسنوات أصبحت هناك باللغة العربية قناة الجزيرة الفضائية التي حاولت تقديم "رواية" مختلفة قليلا في حرب الخليج الثانية وما بعدها. ثم توالت الفضائيات الإخبارية في المنطقة من العربية إلى سكاي نيوز وغيرها. لكن الواقع أن كل تلك المنافذ العربية لا تلعب دورا مؤثرا بقوة في "الرواية"، خصوصا وأن عصر الفضائيات لم يعد بتلك القوة والزخم التي كان عليها وقت "سي إن إن" وحرب الخليج الأولى. ويرجع ذلك لانتشار وسائل التواصل المختلفة عبر الإنترنت والترويج الهائل الذي جعلها مصدر الأخبار والمعلومات لأغلبية الناس.
حاولت إثارة تلك النقطة في الندوة، أي أن روسيا ربما خسرت معركة الرواية عن الحرب؛ لأنها اتبعت أسلوبا قديما يماثل ما يُسمَّى الآن وسائل الإعلام الرئيسية أو التقليدية، بينما الأوكرانيون كانوا مستعدين باستخدام وسائل التواصل عبر الإنترنت وغيرها من الأدوات الجديدة. لكن التركيز عاد مرة أخرى على فشل الروس في استخدام تلك الأدوات لتقديم روايتهم، رغم الادعاء الغربي السابق بأنهم يشنون حملات تضليل عبر وسائل التواصل لتعبئة الرأي العام في الغرب حول أهدافهم السياسية. وبغضِّ النظر عن الاتهامات الأميركية والبريطانية لروسيا والصين وإيران بأنها استغلت مواقع التواصل لتزوير استفتاءات أو انتخابات أو ما إلى ذلك ـ وهي تظل مجرد اتهامات يصعب التأكد من صحتها ـ فإن ما نشهده فعلا هو طغيان الرسالة الإعلامية الغربية عبر الوسائل التقليدية ووسائل التواصل مع حجب تام لأي جانب من الرواية الروسية. حتى وإن كانت الرواية الروسية تبدو فعلا غير مقنعة إلى حد ما، وربما موجهة أكثر للداخل الروسي منها للخارج، إلا أن القدر الأبسط من الموضوعية يعني أن تقدم "رأيا آخر" وليس أن تحجر عليه تماما بطريقة تشبه قمع الديكتاتوريات العاتية التي ينتقدها الغرب دوما تحت شعار حقوق الإنسان وحرية الرأي.
تصورت في الواقع أن الندوة ستركز على تحليل لماذا كسبت رواية وسائل التواصل الأوكرانية؟ وتستخلص دروسا من ذلك تفيد الذين يتأهلون للعمل بالصحافة والإعلام، خصوصا وأننا ما زلنا نعاني من تبعات "رواية" تلك الأدوات الإعلامية عن وباء كورونا والتي حملت الكثير من التضليل وترويج نظريات المؤامرة. كما أن تلك الوسائل الجديدة والمتطورة، وبما توفره من إمكانات الكذب المتقن عبر تزوير الصوت والصورة، تلعب الدور الرئيسي في تصاعد تيارات اليمين المتطرف والإرهاب ـ في الغرب وفي منطقتنا وفي كل العالم ـ منذ ما قبل وباء كورونا وما بعده. لكن للأسف خاب ظني، وفي النهاية لم تكن الندوة سوى حلقة أخرى من حلقات تبعية الصحافة والإعلام لتسطيح وتجهيل وسائل التواصل. ولا لوم على الندوة ولا الجامعة، فتلك هي الموجة السائدة والتي لم تفلت منها وسائل إعلام تقليدية كانت تعد من الأكثر رصانة في العالم.