د. جمال عبد العزيز أحمد:
للحرف(أل) في النحو العربي عشرةُ أنماط تفصيلًا، ولكلِّ نمط منها دلالتُه، وله ـ بلا شك ـ سياقه، واستعمالاته، وكان المفسرون، والنحاة على علم تام بدقائق (أل)، وبأنماطها؛ ومن ثم جاءت تفسيراتهم ـ فيما دخلتْه (أل) ـ رائعة، ماتعة، تدل على تعمُّق كبيرٍ في فهم قضايا اللغة، والوقوف على أسرارها، وجمال سرائرها، وهنا أعرض لأنماط (أل) في نحونا العربي؛ لنرى هذا الإبداع، وتلك الإمكانات اللغوية العجيبة التي اختُصَّتْ بها لغتُنا الجميلة، وكم كانت لغة باهرة، لا يوجد مثلها في أيِّ لغة من لغات الأرض؛ ومن ثَمَّ اقتضتْ حكمة الله العليم الخبير أن تكون خاتمة الرسالات، ونبع وأصل الديانات ـ وهو الإسلام ـ نازلًا كتابُه بتلك اللغة العربية الشريفة؛ لكونها تمتلك من الطاقات التعبيرية، والإمكانات اللغوية ما لا تملك ربعَه أيُّ لغة من لغات الخلق، ولا أيُّ ملة من ملل ونحل الكون، وهاكم تلك الأنماط لـ(أل)، ومعانيها، ودلالاتها، وطرق استعمالها، والله الموفق.
1- (أل) الجنسية:
وهي التي لا تفيد تعريف الاسم التي تدخل عليه في شيء، ولا يصبح الكلام بين المتكلم والمخاطب معها محددًا، معروفا، وإنما يظل الاسم منكَّرًا، يفيد الشيوع وعدم التقييد، فلو قلنا: الحديد معدن قوي، فنحن لا نتكلم عن محدد مفرد معلوم، وإنما نتكلم عن جنس كامل، يشمل جميع أنواع الحيد في الكون، ومعناها جنس الحديد، أو كل أواع الحديد، أو أي حديد، فإذا حذفت (أل) ووضعت كلمة جنس أو أي أو كل أو مطلق والمعنى مستقيم وواضح فهي جنسية، لا تفيد تعريفا، ولا تؤدي إلى تحديد، ومن ثم فإذا وقعت بعدها جملة كان فيها وجهان الصفة(لأن الجمل بعد النكرات صفات)، والحال (على اعتبار أصل أل من التعريف، والجمل بعد المعارف أحوال)، ففي نحو:(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) (يس ـ 37).
ففي جملة:(نسلخ منه النهار) توجيهان؛ الأول هو أنها في محل رفع صفة لليل؛ لكون (أل) جنسية لا تفيد الكلام تعريفًا، ويظل معها اللفظ منكَّرًا، والجمل بعد النكرات صفات، وهو مبتدأ مؤخر، والثاني أنها جملة في محل نصب حال؛ لكون (الليل) معرفة، والجمل بعد المعارف أحوال، على أننا هنا نرجِّحُ جنسيتها على عهديتها؛ وذلك من مدخل عقدي خلاصته أن الله ـ جلَّت قدرته ـ يخلق من أيِّ ليل أيَّ نهار، ولا ينتظر ليلا مَّا محدَّدا ليخلق منه النهار، فقدرتُه لا تُحَدُّ، ولا تُتَخَيَّلُ، ولا يتصورها عقلٌ مخلوقٌ، فلا يُنتَظر أن تعرَّف كلمة (الليل) حتى يُسلَخَ منه النهارُ، فـ(أل) هنا جنسية، وهو توجيهٌ أقوى من كونها في توجيهها النحوي عهدية، أو معرفة؛ للسبب الذي ذكرتُ، وكثيرًا ما تتدخل العقيدةُ الصحيحة في تفضيل إعراب على إعراب، أو يكون هناك أولى من غيره عند التدقيق والمحك العقدي الصحيح، وأخذ قضايا العقيدة بعين العناية، والرعاية في كل شيء، حتى لو كان الأمر إعرابًا، أو كان توجيهًا نحويًّا للفظٍ في تركيبٍ ما.
وكذلك يمكن أن يُخَرَّجَ قوله تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة ـ 5)، فقد اختلفوا في موقع جملة: (يحمل أسفارًا) هل هي صفة في محل جر على اعتبار أل جنسية في(الحمار)، والجمل بعد النكرات صفات، أيْ كمثل أيِّ حمار موجودٍ في الكون، يحمل أسفارًا، وهي الكتب العلمية الكبيرة النافعة، ولكنه لا يفهم قيمتها، ولا يدرك قدرها، وخطورتها، أو في محل نصب حالًا، على اعتبار أن (أل) عهدية معرفة، والجمل بعد المعارف أحوال، فمثل تلك الجمل لها وجهان على اعتبار تخريج (أل) كما رأينا، ومنه قوله تعالى:(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الانبياء ـ 30)، ومنها(يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء ـ 28)، ومنه:(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران ـ 36)، ومنه حديث:(ويل للأعقاب من النار)، ومنه حديث:(إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَار)، ومنه (أل) في لفظ:(المرأة) في حديث:(ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَبِلَالٌ مَعَهُنَّ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقَ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا(، ومنه قول العرب المشهور:
ولقد أمر على اللئيمِ يسبُّني
فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني