سعود بن علي الحارثي:
لا ألوم الباحثين عن عمل، الذين تمضي حياتهم رتيبة مملة، يكابدون ويقاسون الأمرَّين ويتعبون درجة الإعياء في التتبُّع والتقصِّي والتفتيش عن الفرص، وانتظار الفرج، ويهرعون زرافات وجماعات للتنافس على وظيفة يتيمة أو بضع وظائف قليلة، وفي نهاية المطاف يكتشفون حجم المعاناة والإذلال وهم ينتظرون في قلق اتصالا لا يأتي، ويبحثون عن واسطة في هيئة شخص قد يتوصلون من خلاله إلى منفذ يوفر لهم بصيص أمل فلا يجدونه، أو يلهثون من مؤسسة إلى أخرى ومن شيخ أو عضو في الشورى أو قريب متنفذ أو صاحب مشروع بينه وبين الباحث عن العمل خيوط معرفة فلا تنفع كل تلك الواسطات إلا في وضع الباحث وأسرته أمام المزيد من الإحراج وتراكم الإحباط والغضب والحقد، التي تشكل خطرا جسيما وتحديا هائلا أمام استقرار الأوطان. أمضى هذا الباحث ما يقارب العقدين من عمره في مقاعد الدراسة، من الابتدائية وحتى تخرجه من الجامعة، ليجد نفسه بعد الجهد وسهر الليالي وحفظ النظريات ودراسة المناهج والنجاح في الاختبارات الواحد تلو الآخر واستثمار أسرته فيه، يدور في حلقة مفرغة، حبيس منزله ووعود لا يتم الوفاء بها وفرص يعلن عنها فتتلاشى من بين يديه، تلتهمه الهواجس والمخاوف وتتناوله الشكوك والأفكار الشيطانية، يلبسه الخجل والعار وهو بين أفراد أسرته وأبناء مجتمعه، يطرحون عليه الأسئلة اللحوحة التي تجثم على صدره وتعصر معدته وتنهك جسده "بعدك ما حصلت شغل"، وهو يرد عليهم بالإجابة المعلبة ذاتها "ما في شغل في البلاد"، ولا يزال يسمع بين الفينة والأخرى من يغمز ويلمز ويعلق من بين هؤلاء "الظاهر أنه فاشل" و"ما مال شغل" و"الأعمال ماليه البلاد، لكن الظاهر أنه كسلان يحب الرقاد"، أو "مساكين أبوه وأمه وأسرته فقراء وكانوا متأملين فيه أنه يرفع رأسهم ويعزهم ويساعدهم براتبه"... فكيف نتصور حياة الباحث عن عمل وهو بين مطرقة البحث عن وظيفة لا يحصل عليها وأبواب عمل موصدة في وجهه ومغلقة أمام تطلعاته وطموحاته، وإجراءات تزداد تعقيدا وعوائق وإشكالات تبعده عن تحقيق هدفه بدلا من أن تيسر طريقه، وسندان مجتمع يقرعه كل ساعة بأسئلة وتعليقات لا تخلو من اللوم والعتب والشك تضغط عليه حتى تكاد تخنقه وتمنع أوكسجين الحياة عنه، والسياسات والقرارات والتصريحات ذات العلاقة بسوق العمل معظمها إن لم يكن كلها تستقطع شيئا فشيئا من حقوقه وامتيازات الوظيفة وأمانها واستقرارها والتي يفترض أن يحصل عليها فتسحق طموحاته وأحلامه، والتي تحوَّلت إلى مجرد عقد عمل بالساعات، لربِّ العمل، مؤسسة حكومية أو خاصة إنهاء وقتها في أي زمان، ليذهب استقرار وأمان وحقوق الوظيفة في مهب الريح ويعود المسرَّح إلى بيته خالي الوفاض باحثا عن عمل في دورة أخرى جديدة، ويلتحق آخرون في برنامج ما يُسمَّى بـ"التدريب على رأس العمل" براتب صغير بالكاد يكفي قيمة وقود السيارة وصيانتها وتكلفة الوجبة لمدة سنتين أو ثلاث سنوات، وساعات عمل تتواصل صباحا ومساء، مؤملا ومتطلعا وحالما بأن يتم إلحاقه بوظيفة دائمة في ذات المؤسسة، إلا أن علاقته تنتهي بها حالما تستنفد مدة البرنامج، هذا فضلا عن رواتب ومستحقات تخفض باستمرار لمعظم الوظائف والأعمال والمهام في القطاعين الحكومي والخاص... ومواقف وقصص مؤلمة يسردها الباحثون والملتحقون حديثا تصور معاناتهم في الحالتين. على مدى السنوات والأشهر القليلة الماضية، تحاورت مع عدد من أبنائنا وبناتنا الشابات والشباب الباحثين عن عمل، فوجدتهم في حال مؤثر من اليأس والإحباط وانهيار الثقة في الجهود والسياسات الحكومية والتصريحات التي يدلي بها وزراء ووكلاء الجهات المختصة، وما اتساع اللغة السوداوية والتشاؤمية ومشاعر العدائية تجاه الأجانب العاملين في القطاع الحكومي والخاص، والتعليقات الساخرة حول كل ما يصدر من قبل المسؤولين من تصريحات وإعلانات وإنجازات.. إلا مؤشرا على ما بلغته حالة الباحثين عن عمل، وإن لم تسارع مؤسسات الدولة إلى التخفيف من معاناتهم ووضع حلول عاجلة وعملية وملموسة لتوفير فرص عمل حقيقية، والابتعاد عن التنظير والشعارات والتلويح بإنجازات لا يراها ولا يعترف بها الباحثون عن العمل وأسرهم، فسيترتب عن هذا الضغط وتجاهل أسبابه، انعكاسات خطيرة جميعنا يعيها ويدركها، ولا تحتاج إلى الإشارة إليها، فقد تحدثنا عنها مرارا في عشرات المقالات التي نشرت على مدار السنوات الماضية. وقد تضمنت عشرات الدراسات والتوصيات وخلاصة الندوات والخطط والبرامج التي نظمت وقدمت في مناسبات مختلفة، بأن ضعف النشاط الاقتصادي في البلاد، وتعقيد الإجراءات، وغياب مرونة القوانين والتشريعات، وتجاهل الاستثمار وتطوير ودعم القطاعات الواعدة كالسياحة والزراعة والمعادن والأسماك واللوجستيات... وكذلك غياب المحفزات والامتيازات الجاذبة للمستثمر وأصحاب الأعمال والنخب من ذوي التعليم الرفيع للاستثمار في البلاد أو الحصول على الجنسية، وفوضى السوق ونمو العمالة الأجنبية غير المتعلمة، ونفوذ وسيطرة قلة من الأجانب على النشاط الاقتصادي، واستمرار قطاع التعليم على ذات الأسلوب التقليدي في مناهجه ووسائل تعليمه وتخصصاته بدون تحوُّلات تتناسب مع التطور الذي يشهده التعليم في البلدان المتقدمة وحاجة السوق من التخصصات وضعف الاستثمار في البحث العلمي والابتكار ودعم المواهب... جميعها أسباب واضحة لشح الوظائف والأعمال، وضعف القطاعات والأنشطة عن توفيرها بما يتناسب مع التخصصات المختلفة للشباب. ولا أدري ما سر بقاء واستمرار هذه المشكلات والمعيقات على ما هي عليه دون معالجة وحلحلة ملموستين، وكأنها قد استعصت على الحكومة ومؤسساتها ومسؤوليها ـ رغم قناعة الجميع بأنها السبب لمعظم مشكلاتنا التي أصبحت شائكة وعويصة مثل الباحثين عن عمل والمسرحين وضعف القوة الشرائية والاستثمار الأجنبي، وتعثر الكثير من المشاريع الاقتصادية والتجارة المستترة، وكذلك تعثر برامج تنويع مصادر الدخل... ـ فهل سببه سيطرة ونفوذ أصحاب الشركات الكبيرة والأغنياء الذين هيمنوا على الأنشطة التجارية والمشاريع الاقتصادية في البلاد؟ أم قوة اللوبي الأجنبي وسيطرته على مؤسسات القطاع الخاص؟ أم في تداخل المصالح؟ أم هناك أسباب أخرى غير معروفة وغير مشخصة، أو لا يعلمها إلا المختصون في حقول العمل؟ قبل بضعة أسابيع كنت في زيارة لصديق من أصحاب الأعمال والمشاريع، فحدثني بمرارة عن تعقيد الإجراءات ومحاولة إعاقة تنفيذ المشاريع وعرقلة الموافقة عليها، وأطلعني على مجسم لأحدها، وشرح لي المرات التي طلب فيه منهم تغيير الألوان وتعديل التصاميم وإضافة عناصر أو حذفها، وكيف أن موظف في الجهة المختصة يصدر أمرا فينقضه زميل له في مراجعة تالية، وختم حديثه بسؤالين مهمين ومرتبطين بما طرحه: "هل نتوقع بعد ذلك أن يهرع إلينا المستثمر الأجنبي ليعيش هذه المأساة من التعقيدات والمعيقات والإشكالات وأشهرا أو سنوات من إنهاء الإجراءات؟"، و"كيف للقطاع الخاص أن يتمكن من توفير الوظائف للعُمانيين وهو يعيش هذا الواقع الذي شرحته لك؟"، وقبل أسابيع أقمنا في مخيم سياحي برمال بدية وقص عليه مالكه مواقف وأحداثا أشبه بالطرفة مما لا يقبله المنطق تجمعت في ملف طلبه المقدم للحصول على تصريح رسمي لمخيمه السياحي، وكأن الغاية فقط تعطيله وإغلاق مشروعه. وفي وسائل التواصل نقرأ ونطالع باستمرار الإعلانات المنشورة عن بيع وإفلاس مزارع إنتاج، ومشاريع كانت ناجحة فوصلت إلى الإفلاس بسبب المنافسة غير العادلة، وغياب التشجيع والدعم، وارتفاع الضرائب والرسوم والخدمات الأساسية، وتعقيد الإجراءات... لينضم آخرون من جديد إلى أعداد الباحثين عن عمل، الذين تحتم وتفرض المسؤولية على الجميع مؤسسات حكومية وخاصة وأصحاب الأموال ومجتمعا، التعاون والتكاتف والعمل بجدية وإخلاص لتغيير الواقع الاقتصادي الهش والضعيف والمعتمد على المشاريع الحكومية، وإحداث نقلة ترفع من قيمة ومكانة الاقتصاد العُماني ليصبح ناميا مستداما منافسا قويا متعدد الأنشطة والموارد متنوعا في قطاعاته قادرا على توفير فرص تتلاءم مع تطلعات وطموحات الشباب وتخصصاتهم وتحقق أهدافهم المشروعة في الحياة. إن الباحثين عن عمل، هم شباب الوطن وعماده ومستقبله وطاقته المتجددة، وعلى مبادراتهم ومهاراتهم ومواهبهم وبراعتهم وإبداعهم وحبهم لبلادهم وتفانيهم من أجلها، وما اكتسبوه من علم ومعرفة وقدرات في مختلف المجالات.. يتحقق التقدم والازدهار ويثمر الاستثمار السخي فيهم، ولم تنشئ الدولة المدارس والجامعات وتنفق على التعليم ومناهجه وتبذل الجهد من أجل أن يحصل كل مواطن على فرصته في التعليم، إلا بهدف بناء مجتمع متعلم واعٍ قادر على المنافسة وقيادة عجلة التنمية والتطور والابتكار، ولا يتحقق ذلك إلا بتقدير المخرجات العُمانية وتوفير البيئة المناسبة التي تزرع فيهم التحفيز والتفاؤل وحب العمل، وإلحاقهم بمؤسسات القطاعين الحكومي والخاص في وظائف وأعمال تحقق الطموحات وتليق بمستوياتهم التعليمية وتطلعاتهم المستقبلية.