د. رجب بن علي العويسي:
ينطلق تناولنا للموضوع من القناعة بأن الأخلاق ثروة الأمم ورصيدها الذي يبقى ممدَّ القوة لحاضرها ومستقبلها، وسرَّ تقدُّمها ونجاحها في مواجهة الجوائح والأزمات والكوارث، وحصن المجتمع وحضن مواطنيه من أن تبث فيهم الفرقة والفتن والظواهر، وأن أي أمة وضعت الأخلاق العالية، والمبادئ السامية، والقِيَم الأصيلة في أولوياتها، والتزمت بها عملا ومنهج حياة، وعكستها في تفاصيل حياة مواطنيها ومنظومة التشريعات والقوانين والإجراءات والعلاقات، في مجالات الاقتصاد والفكر والتعليم والأمن والحياة والسياسة والدبلوماسية والتعاون والعلاقات الدولية كانت لها قوة ومنعة، وعزة ونهضة، وأكسبتها مكانة وتقديرا واحتراما، وإن مقاربة لهذه الفرضية بما تحقق لعُمان في تاريخها الزاهر وحاضرها المشرق من إنجازات فـ"لقد عرف العالم عُمان عبر تاريخها العريق والمشرّف، کیانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها"، يضعنا أمام دور الأخلاق في رسم هذه المعالم التي جاد بها عاطر النطق السامي لجلالة السلطان المعظم، فإن أخلاق العُمانيين وسيرتهم الحسنة في العالمين، وما حملوه في ريادتهم لبحار العالم وتاريخ إمبراطوريتهم مترامية الأطراف، إنما كانت بفعل أخلاقهم التي التزموا فيها منهج حياة، مبادئ التوازن والاعتدال والحيادية والسلام، وارتبطت مفاهيم الأخلاق العُمانية بالعمل والاجتهاد والبحث والتطوير والإنجاز والمبادرة والمبادأة، فكان لهم السبق في الكثير من المجالات الحضارية، وخلد التأريخ الإنساني لأعلام ونماذج وقدوات عُمانية في العلم والأدب والطب والفلك والتاريخ والقيادة والسياسة، بل إن تأسيس العُمانيين لمراكز تجارية كبرى ومدن اقتصادية وموانئ بحرية في الجنوب الشرق الآسيوي والإفريقي ومكوث العُمانيين فيها واختلاطهم بسكان الأصليين، وحالة التناغم والتكامل والانسجام والمشتركات بينهم، إنما كان سببها ما حمله الإنسان العُماني من روح الإنسانية وقِيَمها ومبادئها وأخلاقيات الإنسان حتى انعكست على قبول الناس لهم وتعايشهم معهم، كما لم تكن الأخلاق العُمانية أفكارا مجردة، ومبادئ والتزامات روحية وفطرية وأدبية متوارثة، بل كانت استراتيجيات حياة، التزاما يمشي على الأرض، قولا وفعلا واعتقادا، تجسدت في ما تركه العُمانيون من آثار خالدة، وقدموه من مبادرات رائدة، عززت من الفرص التجارية والاقتصادية والزراعية في تلك المناطق التي وصلوا إليها واختلطوا بسكانها، ليسهموا بدورها في إنعاش الحركة الاقتصادية، وتشغيل سكان تلك المناطق، وتبادل للسلع الغذائية والاستهلاكية وإعادة إنتاجها أو تجريب مناطق أخرى لزراعة بعض الأشجار وغيرها، الأمر الذي وضع الأخلاق أمام مرحلة متجددة من الإنتاجية والعطاء والإنجاز النوعي.
وأحسب أن ما حصلت عليه عُمان من تقدير العالم لها واحترامه لسياساتها، وثقته في قراراتها ولجوء العالم إلى مسقط في حلحلة الكثير من التحديات الأمنية وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء أو تعميق لغة الحوار بين الأشقاء، إنما يرجع إلى هذه الثروة الأخلاقية والرصيد الثري من المبادئ والقِيَم والثوابت التي رسمت الهُوية العُمانية وميزتها عن غيرها، بما اتسمت به من مصداقية وثبات وحيادية واعتدال وتوازن، ولم تكن تتغير أو تتبدل بتغير الظروف والأحوال أو تغير المصالح، بل ظلت ثابتة شامخة سامقة لا تغيرها الحوادث ولا تضيعها الهواجس أو تعكرها المزاجيات، لتعبِّر بصدق عن أصالة هذا الوطن العظيم، والسمت العُماني الذي انعكس على شخصية الإنسان العُماني والتزمته القيادة العُمانية في كل وقت وحين، ومع كومة التناقضات التي باتت تنخر البيت العالمي الكبير وحالة التشاؤمات والصراعات الفكرية والأمنية الذي تعيشه بعض المنطقة والعالم، إلا أن علاقة عُمان ظلت بالمستوى نفسه من الوضوح مع الجميع، وحافظت على مستوى عالٍ من التقدير والاحترام الذي أذهل الجميع، وأدرك العالم حينها أن الأخلاق العُمانية كانت السر الذي حفظ لهذه المسيرة الحافلة بالعطاء قوامها ومكانتها وحضورها، وظلت محافظة على بريقها ولمعانها وضوئها راسما لهذا العالم أفضل الممارسات في التعايش والوئام والحوار والسلام، تلك الصورة الذي لم تستطع أن توفي به أكبر الأقطاب العالمية نفوذا.
غير أن ما يثيره الواقع الاجتماعي من مشاهد وأحداث ومواقف ـ حتما تعبِّر عن ممارسات فردية وسلوكيات شخصية ـ باتت تلقي بظلالها على النموذج الأخلاقي العُماني وإعادة توجيهه بطرائق مختلفة في ظل تكرار الدعوات المبطنة أو المؤثرات الكونية والفضاءات المفتوحة التي تحاول رسم صورة ضدية لهذه الأخلاق في علاقتها بأولويات الإنسان المعيشية وضروراته الحياتية بالتقليل من مساحة الالتزام الأخلاقي في محاولة الهروب من هذا الواقع والظروف الاقتصادية الصعبة، خصوصا مع زيادة مخرجات التعليم من الجنسين والباحثين عن عمل وأعداد المسرحين من الشباب المملوء حماسا وشغفا وإنتاجا وعطاء وفرصة، تعبيرات مختلفة وممارسات شكلية تتغاير مع قِيَم العُمانيين ومبادئهم لتمارس على ملأ من الناس إن لم تجد من ينهرها ويقوِّمها ويصحِّحها ويشدد على أهمية الالتزام الأخلاقي؛ باعتباره تعبيرا أصيلا عن فقه المجتمع العُماني ومساحة أمان تحفظ المجتمع وتحافظ على كيانه، لتضع الأخلاق العُمانية على المحك وتشوه صورة الشخصية العُمانية التي تعلمت من مبادئ العقيدة والقِيَم الأصيلة أهمية المحافظة على مستويات عالية من التوازن، زادا يقيها من أي مشوِّهات لجماليات الصورة أو أي مسببات للخدش في قِيَم الحياء.
وبالتالي إعادة إنتاج مسار المتابعة وتشخيص الحالات ورصدها وفهم العوامل الباعثة إليها، والأسباب التي تقف خلف هذا الاغتراب القِيَمي والأخلاقي من بعض مُكوِّنات المجتمع، وحالة عدم التورع أو البُعد عن الشبهات التي بات الفرد يزج فيه لتوجيه الأنظار إليه، أو سلب فقه المبادئ منه، أو تغيير قناعاته والتأثير عليه بدوافع ذاتية، ملقيا على القدوات عبء التقوقع والرجعية وهاجس الانحسار، وأنها غير قادرة على إعادة إنتاج الواقع وتصحيحه وسبر أعماقه، في ظل أفكار وتكهنات أو تراكمات متداولة حول المسار الأخلاقي، ودائرة السقوط التي باتت تحيط بالمجتمع شبابه وشاباته، وحجم التنازلات التي سيقدمها الجيل الحالي وفاء لرغباته الشخصية وقناعاته الأحادية منطلقا من التقليد الأعمى والممارسة المبتذلة، وشغف البحث ورغبة الاكتشاف والانجرار وراء كل ناعق في المنصَّات التواصلية، كل ذلك يطرح اليوم العديد من التساؤلات، هل نعيش في مجتمعنا العُماني أزمة الأخلاق؟ وهل فعلا نعيش حالة من التشويه لأخلاقنا العُمانية؟ وهل ما يحصل من ممارسات ومواقف وأحداث خارجة عن الإطار الأخلاقي مقصودة لذاتها أم ممارسات عابرة ونتاج لضعف مستوى التوجيه والرقابة الأبوية أو تعاطيها السلبي مع المواقف؟ ثم إذا كانت التشريعات العُمانية قد أسهبت كثيرا في تفاصيل الأخلاق والقِيَم والهُوية، ووضعت لها الإجراءات الثابتة والقواعد والأطر والعقوبات والجزاءات وغيرها، فأين تكمن المشكلة بالضبط؟ وما المانع من متابعة إجراءات التطبيق لها واستشعار حضورها في أبجديات الممارسة اليومية والسلوك الاجتماعي العام، وتفعيل أدوات الرقابة والمتابعة والرصد والتصحيح؟
إن تعظيم قيمة الحياء والستر والعفاف والمحافظة على تفاصيل الخصوصيات، وتجنب كل أشكال الميوعة والاختلاط، ومنع كل ما يؤدي إلى محاولة اختراق الأخلاق العُمانية والقِيَم والمبادئ وغيرها أمر يلقي بعاتقه اليوم على مختلف فئات المجتمع. ومع القناعة بأن أول ما ينبغي فعله في هذا المسار إنما تحبيب الجيل الصاعد في القِيَم والمبادئ والأخلاقيات والرُّقي الفكري، بالترفع عن السقطات والزلات، وتأصيل الكرامة والرجولة وتفعيل أدوار الجنسين من الذكور والإناث، وتجنيب كل ما يؤدي إلى اختلال المسؤوليات أو تقزيم هذه المسؤوليات الفطرية، وإعادة ضبط الأدوار والمسؤوليات الملقاة على عاتق الرجل والمرأة وتقنينها وفق موجهات الشرع الحنيف، بحيث يمارس كل منهم دوره بدون الحاجة إلى بثّ الخلل في المكوِّنات النفسية الفطرية وتغير الخلق أو محاولة تقمص صورة الجنس الآخر، ليكن الجميع على سجيته وفطرته يتعايش مع الظروف ويتفاعل مع تفاصيل هذا العالم، مصدر فخر له وقيمة مضافة صنعت الفارق، فليس عليه أن يتراجع عن قِيَمه أو يتقمص صورة أخرى يراد أن يكون عليها، أو أن يصنع من نفسه سخرية بما يحط فيه نفسه من مواقف غريبة ومواضع مريبة لا تليق بكرامة الإنسان وإنسانيته. وتبقى صناعة القدوات في المجتمع والإعلاء من النماذج المضيئة والتعريف بها ونشرها وإدماجها في مكوِّنات المجتمع وإخراجها للمجتمع عبر دور الإعلام، وإظهارها بصورة حسنة سوف يعيد ـ بلا شك ـ إرجاع المفاهيم إلى أصلها ويمسح عن الأفكار ما علق فيها من ران التغيير السلبي الفجائي وتشويه صورتها الناصعة حياء وبهاء وجمالا.
وكلمة أخيرة لشباب هذا الوطن الغالي وشاباته في أن يحافظوا على أنفسهم ومجتمعهم من كومة السقطات والفلتات والانحرافات الفكرية والجسدية التي باتت تلاحقهم من خلال ارتمائهم في أحضان المنصَّات التواصلية بما فيها من تشوهات في المفاهيم والقِيَم والأخلاقيات، في استغلال للشباب واستحمار لفكرهم الطري، بحجة الاستقلالية والحرية والخصوصية، لتؤدي تصرفات بعض ناشطي "السوشيال ميديا"، والممارسات المبتذلة من بعضهم في المظهر والسلوك، إلى سقوط سحيق وانتكاسة مخزية، صورة تفصح عنها حسابات البعض والحشد من الشباب والشابات الذي يتفاعل معه ويتابع تفاصيله ويعايش حركاته وسكناته، ليفهم منها العاقل الفطن والحليم الأريب مغازي كثيرة خارجة عن مألوف الطباع ومحاسن الأعمال، ودعوة إلى الانسلاخ بدعوى الحرية، وإبراز الخصوصية في سلب موضع العفة والستر، والتشجيع على الإثارة والفتنة، أو التلميح بكل ما بات يخدش الحياء، أو يتنافى مع الآداب العامة، أو يقلل من حس الذوق العام، في غاية دنيئة وأهداف وقتية لسرقة الأضواء، والدخول إلى باب الشهرة، والمنافسات الجسدية العارية على حساب القِيَم والأخلاقيات. إن الأخلاق عنوان التحضر، وطريق التقدم، وعنوان الفضيلة، المنقذة للإنسان من دركات السقوط الفكري العقيم، وغوغائية النفس الأمارة، وارتباط الإنسان بالأشخاص والمسميات، وكومات الحياة الوقتية وانجرافها للتقليد وإهمال كل المدركات الفكرية والحسية التي ميز الله بها الإنسان على مخلوقاته، لتتجه إلى فهم حقيقة الوجود، وتتجلى أمامها عدالة السماء وحكمة الابتلاء والاختبار، ويبقى كل منا بصير نفسه ورقيب ذاته في اختيار مصادره وانتقاء قدواته التي انتصرت لها الأخلاق، فهي النور الذي يبصر به طريق النجاة، والطريق الذي يسلك من خلاله دروبها المتعرجة وأشواكها المتعالية غير آبهٍ بتعرجاتها وأشواكها ما دام يحمل حُسن الخلق وثبات المبدأ وصدق العقيدة وصلاح الضمير.