محمد بن سعيد الفطيسي:
أدرك حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أعزَّه الله ـ مخاطر البيروقراطية والفساد على بناء الدولة المدنية منذ اليوم الأول لحكمه، فكانت جميع خطاباته ولقاءاته تقريبا تتحدث عن محاربة الفساد ومعالجة مخاطر البيروقراطية، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو من خلال الإشارة لها بطريقة غير مباشرة، وذلك عبر مختلف السياسات والتوجيهات والوسائل الممكنة.
حيث اتخذ العديد من تلك الإجراءات الخاصة بذلك مثل: "إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة ثانيا. تحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل ثالثا. تبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة رابعا. مراجعة أعمال الشركات الحكومية مراجعة شاملة خامسا. دراسة آليات صنع القرار الحكومي بهدف تطويرها سادسا. توجيه الموارد المالية التوجيه الأمثل، سابعا. تعزيز التنويع الاقتصادي، واستدامة الاقتصاد الوطني ثامنا. مراجعة نظم التوظيف في القطاع الحكومي وتطويره، وتبنِّي نظم وسياساتِ عمل جديدة"(1 )
كما جاء نصُّ خطاب حضرة صاحب الجلالة الثاني يوم الأربعاء , 18 نوفمبر 2020 مؤكدا على تلك الموجهات والسياسات التالية، حيث قال جلالته: "وفي إطار دعم قدرة الحكومة، على القيام بمتطلبات تحقيق الرؤية، فقد عمِلْنا على تطوير الجهاز الإداري للدولة، وإعادة تشكيل مجلس الوزراء، كما أنَّ العمل مستمرٌّ في مراجعة الجوانب التشريعية والرقابية وتطوير أدوات المساءلة والمحاسبة، لتكون ركيزةً أساسيةً لصون حقوق الوطن والمواطنين ودورها في ترسيخ العدالة والنـزاهة, كما وضعْنا الأساس التنظيميَّ للإدارة المحلية (استقلال المحافظات)، وذلك بإرساء بـنـيـة إدارية لا مركزية للأداء الخدميّ والتنمويِّ في المحافظات، وسنتابعُ بصفةٍ مستمرة، مستوى التقدم في هذا النظام الإداري، بهدف دعمِه وتطويره لتمكين المجتمع من القيام بدوره المأمول في البناء والتنمية"، هذا إذا ما أضفنا إلى ما سبق تلك التوجيهات والسياسات الخاصة بمحاربة الفساد ومعالجة مخاطر البيروقراطية التي تحدث عنها جلالته خلال تلك اللقاءات مع مشايخ محافظات السلطنة.
وهنا نطرح الأسئلة الآتية: لماذا يجب الاهتمام بقضايا محاربة الفساد وتقليص مخاطر البيروقراطية؟ وكيف يمكن لمختلف الفواعل السياسية والإدارية في الدولة أن تساعد في تحقيق تلك المرئيات والتوجيهات السامية؟
أولا: محاربة الفساد: يقع الفساد بمختلف أشكاله وعلى رأسه فساد العقول قبل فساد الأفكار أو الفساد الإداري والمالي في أعلى قائمة معاول الهدم الموجهة لتدمير الدولة المدنية، ولا نحتاج الكتابة كثيرا أو الإسهاب في الحديث حول مخاطره وتهديداته، يكفي القول: إن الفساد والتطور والتقدم والمدنية لا يمكن أن يجتمعا في مكان واحد، فمتى حضر الفساد غادرت الحرية والديموقراطية والتقدم والتنمية مكانها. فمن أراد أن يؤسس دولة مدنية ويطمح لعمارها وتقدمها فإن أول ما يجب أن يعمل على محاربته والقضاء عليه هو الفساد وأبرز أشكاله هو فساد العقول.
وحتى نستطيع أن نواجه ثم نحارب ونقلص بيئة الفساد ونفوذه وأعوانه بشكل أكبر فإننا لا بُدَّ أن نعمل على مواجهته بشكل علمي ومنهجي خصوصا في القطاع العام، وأول سلوك حول ذلك هو الاعتراف بوجوده، والاعتراف بمتلازماته وهي الثروة والسلطة والديموقراطية غير المراقبة، حيث يصعب كثيرا مواجهة الفساد أو رسم خط فاصل بين القطاع العام والخاص خلال مرحلة تحرر السوق أو الخصخصة.
ثانيا: تقليص مخاطر وتهديدات البيروقراطية: طبعا لم أقل محاربة البيروقراطية كما هو حال الفساد، وليس ذلك لقلة مخاطر البيروقراطية وتأثيراتها السلبية على الدولة المدنية وطموحات تطويرها وتقدمها وتنميتها، ولكن لكون بعض مكوِّناتها مهمًّا للغاية للتنظيم ومحاربة الفساد نفسه من جهة أخرى، حيث إن أحد مكوِّنات البيروقراطية هو التسلسل الهرمي، أي العمل وفق تسلسل معيَّن لضمان أن يعمل الآلاف من الموظفين والعاملين في المؤسسة بطرق متوافقة من خلال تحديد أدوار معيَّنة ووفق آلية ومنهج تنظيمي محدد. باختصار، المؤسسة بحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم البيروقراطية واستغلال أفضل ما بها ونبذ المكوِّنات السيئة وهي الأكثر.
شخصيا من دعاة تفتيت البيروقراطية؛ أي حكم المكاتب والتعقيدات الحاصلة بها وفي عقول بعض إدارتها العقيمة التي تسببت طوال عقود بخسائر فادحة في الموارد البشرية والمالية، ولكن لست مع الانفتاح الكامل والمرونة المطلقة عبر إطلاق يد المسؤولين لإدارة مؤسساتهم بكل حرية بحجة تفتيت البيروقراطية، بالتالي نحن بحاجة إلى إعادة النظر في تلك المساحة الواقعة بين البيروقراطية والديموقراطية في الإدارة الحكومية.
وكما نتحدث عن الرغبة في مواجهة البيروقراطية وإعادة النظر في مخاطرها فإننا كذلك يجب أن نوضح مخاطر الجانب الآخر والذي تحدثت عنه في مقال لي نشر في هذه الصحيفة تحت عنوان: عرقلة الفساد في الدولة المدنية الحديثة (اقتصاد قوي في مقابل مؤسسات ضعيفة) والمنشور بتاريخ 29 أغسطس 2021 حيث جاء في المقال الآتي:
ما "حدث نتيجة تلك الحرية الاقتصادية والانفتاح الكبير وطموحات الإصلاح الاقتصادي أن الدولة غفلت أو عجزت لأسباب عديدة ومختلفة عن تعزيز قدرة مؤسساتها الرسمية وأجهزتها الرقابية والقضائية فأصبحت هذه الأخيرة ضعيفة وغير قادرة على مواجهة قوة الأفراد وسلطتهم، خصوصا تلك الفئة التي أقامت لها دولة عميقة داخل الدولة نفسها عبر نفوذ واسع من القرارات وتبادل المصالح والعلاقات الاقتصادية والسياسية، حينها تقلصت الحدود بين المال العام والمال الخاص فأصبحت غير ذات معنى، كما كانت أغلب المعايير التي وضعت لتعزيز وتحفيز ذلك الاقتصاد معايير بيروقراطية لعل أغلبها قصد منه تعزيز قوة تلك الشريحة أكثر من كونها معايير تهدف إلى تعزيز الاقتصاد نفسه أو المحافظة على المال العام، بالتالي غير مناسبة للسوق، لذلك يجادل جونسون بأن "نخب الدول عندما تعمل في بيئة من المؤسسات الضعيفة وقدر محدود من المنافسة السياسية وتوسع في فرص الاقتصاد فإن المجال يصبح مفتوحا للفساد والإفلات من العقاب"( 2)
أخيرا: وهي رسالة لتلك الفواعل السياسية (الوزراء ومن في حكمهم) والفواعل الإدارية (وكلاء الوزارات ومن في حكمهم وما دونهم) من المهم للغاية الحرص على تنفيذ التوجيهات السامية بكل مهنية، فمحاربة البيروقراطية لا تحتاج إلى تعقيد في القوانين بقدر ما هي بأمَسِّ الحاجة إلى مرونة وتسهيلات ينظمها القانون، بحاجة إلى فواعل ميدانية لا مكتبية تنزل إلى الشارع والسوق لتلمُّس حاجات المواطن والمقيم في مختلف القطاعات وتعالج تلك الإشكاليات البيروقراطية من الواقع وليس من خلال ما ينقل لها فقط، جلالته بحاجة إلى مسؤول قريب من الناس يزرع بهم الأمل والثقة (3 ) وليس مسؤولا متسرعا أو غير مهني في تصريحاته التي تزيد من مخاوف الناس وامتعاضهم وسخطهم، بحاجة إلى أن يقوم أصحاب المعالي والسعادة بتوجيه الموظفين العاملين معهم بتسهيل إجراءات أصحاب المصالح وإعطاء تلك الشريحة من الموظفين الصلاحيات للعمل بحرية مسؤولة بعيدا عن التعقيدات أو التقديرات الشخصية غير المسؤولة والتي طالما تسببت بضياع حقوق المواطن والمقيم بين أكوام الأوراق والإجراءات البيروقراطية غير المبررة.
وان كان من توصية أخيرة دون الدخول في تفاصيل كثيرة، فإني أتمنى أن تكون الحلول المطروحة لمحاربة الفساد وتقليص مخاطر وتهديدات البيروقراطية إبداعية وعملية، وليست مجردة من روح الحركة والميدان والفكر الواقعي مثل تفعيل فكرة المراجع السري وتفعيل المادة 65 من النظام الأساسي للدولة (4 ) كما أتمنى الاهتمام بقضايا محددة وهي العقدة المستمرة والدائمة في مختلف القطاعات الخدمية مثل وجود العقل الإداري المعقد أو المسؤول غير المسؤول أو الفريق القيادي الذي تم اختياره وفق أهواء المسؤول (5 ) وليس وفق معايير علمية وإدارية سليمة، وعدم وجود بدائل عند غياب الموظفين الإداريين(6 )، وكثرة القوانين والإجراءات المعقدة والمنفرة واستمرار توقف النظام (الإنترنت) واستمرار مشاكل الربط بين المؤسسات الحكومية، بل وانعدام وجود ذلك الربط والتنسيق بين بعض المؤسسات ذات الخدمات المترابطة والمفترض أن يكون بينها تنسيق وترابط.
ـــــــــــــــــــــــــ
مراجع
1 ـ من خطاب حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق سلطان سلطنة عمان أعزه الله يوم الأحد الموافق 23 فبراير 2020
2 ـ - راجع: محمد بن سعيد الفطيسي، عرقلة الفساد في الدولة المدنية الحديثة (اقتصاد قوي في مقابل مؤسسات ضعيفة)، صحيفة الوطن العمانية، تاريخ النشر 29 أغسطس 2021 على الرابط: https://alwatan.com/details/435865 نقلا عن: مايكل جونسون، متلازمات الفساد (الثروة والسلطة والديموقراطية) ترجمة: نايف الياسين، العبيكان ط1/2008
3 ـ - راجع: محمد بن سعيد الفطيسي، الأمل هو الحياة فلنحافظ عليه عند إيصال الرسائل إلى الجمهور، صحيفة الوطن العمانية، تاريخ النشر 18 ابريل 2021 على الرابط: https://alwatan.com/details/421960
4 ـ - راجع: محمد بن سعيد الفطيسي، المتابعة والرقابة على الأداء الحكومي (قراءة في المادة 65 من النظام الأساسي للدولة من وجهة نظر سياسية)، صحيفة الوطن العمانية، تاريخ النشر 30 يناير 2022 على الرابط: https://alwatan.com/details/454415
5 ـ - راجع: محمد بن سعيد الفطيسي، عيب الانحراف بالسلطة (اختيار الفريق القيادي لإدارة المرفق العام نموذجا)، صحيفة الوطن العمانية، بتاريخ 22 أغسطس 2021 على الرابط: https://alwatan.com/details/435065
6 ـ -راجع: محمد بن سعيد الفطيسي، راجعنا غدا. النظام متوقف. المدير مريض. المدير العام في اجتماع، صحيفة الوطن العمانية، تاريخ النشر: 12 ديسمبر 2021 على الرابط: https://alwatan.com/details/448358