د. عبدالله بن خلفان العزري:
مواصلة على ما أشرت إليه في المقال الأول والثاني، فإن إنشاء نظام معلومات استراتيجي فعال لتجميع ورصد احتياجات سوق العمل من المهارات الحالية والمستقبلية، وتطويره سيتطلب سرعة الاستجابة في تجميع المهارات والقدرات التي يتطلبها سوق العمل حاليا ومستقبليا، وأيضا تلك التي تقدمها المؤسسات التعليمية في برامجها الأكاديمية وغير الأكاديمية. إنَّ ما تشهده أسواق العمل العالمية من تغيير متسارع وجذري في مختلف القطاعات يحتِّم علينا إعادة رسم الخطط، والسياسات، والمبادرات المتعلقة بتوظيف، وتنمية مهارات الكوادر البشرية، فهناك من الوظائف التي ستختفي ولا يكون لها أثر، ومنها التي ستظهر وستحتاج إلى مهارات وقدرات خاصة للقيام بها؛ نظرا للتغيرات التكنولوجية الرقمية، والتقنية الحديثة كالثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وسلسلة الكتل، وإنترنت الأشياء، وغيرها.
غالبًا ما تعتمد عملية توظيف الكوادر البشرية على عنصرين أساسيين هما: المعرفة العلمية ومهارات العمل، ففي هذا الوقت؛ تتم عملية توظيف الموارد البشرية بشكل كبير على المهارات والقدرات التي يمتلكها الخريج بنسبة كبيرة جدا تفوق على ما يحصل عليه من مؤهلات علمية، فالمعرفة بالمجال أمر مهم ولكن الأهم هو ما تم تطبيقه، واكتسابه خلال الدراسة أو التدريب عمليا، كما يتم استبعاد الكثير من المتقدمين للوظائف بسبب افتقارهم للمهارات ـ الناعمة أو التخصصية ـ المطلوبة، وكذلك عدم امتلاكهم الخبرة العملية الكافية ببيئة العمل، وبالمهام الوظيفية للوظائف المتقدمين لها، فقد أشارت إحدى الدراسات ـ والتي أعدتها جامعة هارفرد الأميركية ـ فإن نجاح الموظف في عمله يعتمد على المهارات الناعمة التي يمتلكها بنسبة تصل إلى 85% و15% عن ما يمتلكه من مهارات تخصصية (صلبة).
ويطلق مصطلح المهارات الناعمة على المهارات الشخصية العامة التي يمتلكها الكادر البشري خارج نطاق تخصصه الوظيفي، والتي من الممكن أن لا ترتبط ارتباطا وثيقا بالوظيفة، ولكنها ضرورية ومهمة لتحقيق الكفاءة وزيادة الإنتاجية في العمل، أما المهارات التخصصية فهي تلك المهارات والخبرات التي يمتلكها الكادر البشري في مجال تخصصه الوظيفي، ويمكن اكتسابها عن طريق التعليم والتدريب وأيضا الخبرة العملية، فمثلا المهارات الهندسية والتقنية تُعد تخصصية للمهندس الذي يعمل في مجال الهندسة والمهارات الناعمة هي المعززة لذلك المهندس لتطوير مساره المهني والارتقاء في السلم الوظيفي، والتي يمكن اكتسابها من خلال التعلم الذاتي للفرد.
وكما أشرت أعلاه إلى أن أصحاب الأعمال في هذا الوقت لا يعولون كثيرًا على المؤهلات العلمية للمتقدم للوظيفة أكثر مما يمتلكه من مهارات تؤهله للقيام بالأعمال بكفاءة وبشكل فعال، فلحديثي التخرج والباحثين عن عمل، تكمن أهمية المهارات الناعمة في نجاحهم بالمقابلة والحصول على الوظيفة، فهي المعيار الأساسي لذلك، أما المهارات التخصصية فتسهم في وصولهم إلى مقابلة التوظيف.
فالرغبة في المشاركة والانفتاح على الأنشطة وإبداء الأفكار الجديدة والمهارات القيادية والتواصل الفعال لغويًّا وكتابيًّا والإبداع، وحل المشكلات والعمل كفريق، واتخاذ القرارات المناسبة، ومهارات العرض والإلقاء هي من المهارت والكفاءات التي غالبا ما يتم التركيز عليها في مقابلات التوظيف وجميعها مهارات ناعمة، والتي ينبغي من الطالب الجامعي اكتسابها وتطويرها خلال المرحلة الدراسية، كما أن التدريب العملي يعد من أفضل الوسائل لتطوير المهارات الناعمة والتخصصية وجسر عبور لسوق العمل فهو يسهم في تطوير الطلبة مهنيا ومعرفيا، واحتمالية الحصول على وظيفة مناسبة في وقت أقل بعد التخرج تكون كبيرة، هذا وقد أشارت بعض الدراسات، التي أجريت في عُمان بشكل خاص ودول أخرى بشكل عام، إلى أن مهارات التواصل الفعّال والعمل كفريق تعد من أهم المهارات الناعمة المطلوبة في سوق العمل ـ وفي الوقت نفسه ـ تعد من أضعف المهارات التي يفتقر إليها هؤلاء الخريجون والتي لاحظها أرباب العمل.
أما أصحاب الخبرات العملية، وعند انتقالهم من وظيفة إلى أخرى أو من مستوى إداري إلى آخر، فغالبا ما يتم تقييمهم بناء على ما يمتلكونه من مهارات وظيفية وشخصية ناعمة كالقدرة على التخطيط والإبداع وقيادة الفريق، والعمل على تأهيل الموظفين، وتطوير قدراتهم والتكيّف مع متغيرات سوق العمل، وبناء بيئة عمل جاذبة للموظفين والتي غالبا ما تتميز بالتنوع والابتكار والتعاون، وتشجيع ثقافة العمل الجماعي والحوار والتواصل بكفاءة وفعالية وكذلك الثقة والنزاهه.
ختامًا، علينا جميعا العمل على تنمية المهارات الناعمة والتخصصية ابتداء من المراحل التعليمية الأولى، وخصوصا مهارات التواصل الفعّال، العمل كفريق، القيادة، التخطيط، والتفكير والتحليل النقدي، وعلوم البيانات والروبوتات وغيرها والذي بدوره سيسهم في إنتاج قوى بشرية قادرة وواثقة وتمتلك المهارات التي يتطلبها سوق العمل ومتغيراته المتزامنة، كما أن للطالب وأسرته دورا كبيرا في تنمية وتطوير مثل هذه المهارات وذلك ليس من خلال معرفة معلومات عنها فقط، وإنما من خلال الاطلاع والتعلم الذاتي، وكذلك الممارسة العملية في حياتهم بالبيت وتعاملاتهم اليومية مع الآخرين لإتقانها.