د. رجب بن علي العويسي:
شهدت سلطنة عُمان في العقود الخمسة الماضية تحوُّلات في مختلف مجالات التنمية، وشكَّلت التحوُّلات الاقتصادية والاجتماعية أحد أهم معطيات بناء الخطط الخمسية واستراتيجيات التنمية التي انتهجتها السلطنة، حققت نتائج إيجابية كثيرة على مستوى الحياة المعيشية للمواطن وتوفير البنية الأساسية والخدمات الشاملة التعليمية والصحية والاجتماعية، والاستدامة الاقتصادية والملاءة المالية وغيرها وأتاحت للسلطنة تبنِّي أفضل الممارسات في إدارة معطيات الأمن الاجتماعي والوطني وإدماجه في حياة المجتمع وفلسفة بناء منظومات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والتعليمية، واتخذت فلسفة الأمن في عُمان منحى عصريا متوازنا، يتناغم مع إنسانية الأمن واقتصاد الأمن والأمن والحياة.
ومع هذه الفرص الإيجابية المرتبطة بالتحوُّلات الاقتصادية والانتقال إلى اقتصاد مجتمع المعرفة والثورة الصناعية الرابعة ومهارات القرن الحادي والعشرين وغيرها من الموجهات العالمية التي وضعتها السلطنة في رؤيتها الطموحة "عُمان 2040" كمدخل استراتيجي في إدارة واقعها وتقييم دورها في الساحة الدولية، وإثبات بصمة حضور فاعلة لها في القضايا الأمنية والإنسانية والبيئة والمحافظة على السلم والأمن الدوليين، والاستفادة من أفضل الممارسات الاقتصادية العالمية، وجملة الشراكات والاتفاقيات والتفاهمات التي عززتها في علاقاتها مع الشركاء حول العالم وانعكاساتها على زيادة المشروعات الاقتصادية وتعزيز الاستثمار الأجنبي وإنشاء المدن الاقتصادية الخاصة والمناطق الصناعية الحرة وغيرها، فقد نتج عنها أيضا العديد من التحديات والمقلقات على البُعد الأمني الشامل، في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية والفكرية والأخلاقية والصحية والغذائية وغيرها من أبعاد المنظور الأمني الشامل.
ومع القناعة بأن جائحة كورونا (كوفيد19) وما فرضته من واقع عالمي جديد انعكس على الحالة الاقتصادية والاجتماعية، وسلط الضوء على الكثير من القضايا الأمنية التي باتت تشكِّل وجْه الأمن الاجتماعي، فإن التوقعات بتوظيف هذه المكتسبات الوطنية ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية في تعزيز كفاءة منظومة الأمن الاجتماعي سوف يكون له أثره في قراءة الواقع الوطني الجديد لما بعد جائحة كورونا، واتخذت السلطنة العديد من الإجراءات والتوجُّهات الاقتصادية في سبيل معالجة التحديات المرتبطة بالعجز والديون أو كذلك ما يتعلق بالحماية الاجتماعية في مواجهة جائحة كورونا، خصوصا أن تناغم التوقيت الزمني بينهما وفي ظل مرحلة جديدة لبناء عُمان المستقبل بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، إذ كان لهذه التحوُّلات الاقتصادية والاجتماعية في مستوياتها العالية بما وفرته من فرص أكبر للحياة المعيشية والسيولة المالية، أو كذلك المنخفضة في حجم الإجراءات الاقتصادية الصعبة التي ارتبطت برفع الدعم عن المواطن (الماء والكهرباء والوقود)، وفرض ضريبة القيمة المضافة وضريبة الدخل، وغيره من الإجراءات التي يطول الحديث عنها.
وبالتالي يمكن قراءة ملامح هذه التحوُّلات الاقتصادية وأبعادها على الأمن الوطني الشامل من واقع عمل المحاكم ومؤشرات الجرائم والجناة في السلطنة، وما أفصحت عنه المؤشرات من حقائق صادمة أحيانا أو اعتيادية مقارنة بمستوى الجريمة وأعداد الجناة في دول العالم المتقدم والمتطور، ولذك سيكون تناولنا لها في إطار تشخيص وتحليل وفهم الأبعاد الأمنية، دون تحديد حجم الانخفاض والتراجع أو الارتفاع، بقدر ما هي إشارة إلى أن هذا التحوُّل الاقتصادي والاجتماعي كما نتج عنها الكثير من الفرص الاقتصادية الاجتماعية ومستويات في الحياة السكنية والمعيشية والاستقرار الاجتماعي والعائلي ومستويات نوعية في التعليم والصحة والغذاء وغيرها، إلا أنها ارتبطت أيضا بظواهر سلبية بات لها تأثيرها على الواقع الاجتماعي وأثرها على الهُوية العُمانية، والحديث عن الظواهر السلبية والمشوهات الفكرية التي باتت تؤثر على مجتمع السلطنة أكثر من احتوائها في مقال، فالصورة العامة لهذه الظواهر السلبية في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية والتقنية والنفسية والصحية وما يتعلق منها بالإشاعات تعكس في ظل اتساعها وتشعبها وعمقها حجم التحديات والصعوبات المرتبطة بها على الفرد والمجتمع.
إذ من جهة تشير واقع الدعاوى المرفوعة في المحاكم إلى أن عدد الدعاوى المرفوعة إلى المحاكم الابتدائية (الشرعية والمدنية والجزائية والتجارية والعمالية) بلغت 60.9 ألف دعوى، تم الحكم في 41,3 ألف دعوى بنسبة 68 % من إجمالي الدعاوى المرفوعة لعام 2020م، كما بلغ عدد القضايا الواردة إلى الادعاء العام حسب تصنيف القضايا (جنايات، جنح، مخالفات، شكاوى إدارية، عوارض) في محافظات السلطنة لعام 2020 (23,831) حالة، ومن جهة أخرى يأتي دور مؤشرات الجرائم والجناة في السلطنة ليعطي صورة أكثر وضوحا واستيعابا لهذا الواقع، حيث تشير الإحصائيات إلى أن عدد الجرائم المسجلة في عام 2020 بلغت (11.312)، ومن حيث تصنيف الجرائم فإن الجرائم الواقعة على الأموال هي أكثر الجرائم ارتكابا في عام 2020 م حيث بلغ عددها (3.422) جريمة. تليها الجرائم الواقعة على الأفراد (2.476) جريمة، الجرائم المخالفة للقوانين (2.167)، جرائم المخدرات (1.376) والجرائم الواقعة على الإدارة العامة والمخلة بالثقة العامة (545) الجرائم الأخرى (545)، جرائم السكر والخمور (428)، والجرائم المخلة بالعرض والأخلاق العامة (324)، وجرائم الأسلحة والذخائر (29).
وتشير الإحصائيات إلى أن الفئة العمرية (18-39) سنة هي الفئات الأكثر في عدد الجناة حيث شكَّلت ما نسبته (73%) من إجمالي الجناة، وأن نسبة الأحداث الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة، بلغت (2.3%). وقد بلغ عدد الجناة في عام 2020م (16.672) في عام 2020م، وشكَّل العُمانيون ما نسبته (48%) بواقع (8.062) منهم 92% ذكور، بينما شكَّل عدد الإناث 8%، ومن حيث التوزيع النسبي للجناة بحسب الجرائم في عام 2020م، فقد شكَّل العُمانيون نسبة (48%) من إجمالي الجناة عام 2020م، وأن الجرائم الواقعة على الأموال هي أكثر الجرائم ارتكابا في عام 2020م بنسبة (30%). تليها الجرائم الواقعة على الأفراد (28.2%)، الجرائم المخالفة للقوانين (8.4%)، جرائم المخدرات (17.6%) والجرائم الواقعة على الإدارة العامة والمخلة بالثقة العامة (6.8) الجرائم الأخرى (1,7%)، جرائم السكر والخمور (3.4)، والجرائم المخلة بالعرض والأخلاق العامة (3.3%)، وجرائم الأسلحة والذخائر (0.6%).
ولما كانت الجرائم الواقعة على الأموال هي أكثر الجرائم ارتكابا من العُمانيين في عام 2020م بنسبة (30%)، بما فيها من السرقة والشروع فيها (1.447)، والاحتيال (885)، وإساءة الأمانة (735) وعدد الجناة (327) ذكور و(_38) أنثى، فإن ذلك إشارة واضحة إلى تداعيات التحوُّلات الاقتصادية على النسق الاجتماعي، وحضوره في واجهة الاهتمام يؤكد أثر الإجراءات والأوضاع الاقتصادية على النسق الاجتماعي والأمن العام، خصوصا في ظل ما ارتبط بها من ظهور العديد من الظواهر السلبية الأخرى، وبشكل خاص ما يتعلق منها بجرائم المال والسرقة والاختلاس والرشوة، وانتشار المحافظ الوهمية، والجرائم الاقتصادية الإلكترونية وغيرها، بالإضافة إلى البُعد المرتبط بالهُوية العُمانية والعادات والتقاليد ومستوى تعاطي المجتمع مع منظومة القِيَم والعادات الاجتماعية الداعية للتكافل والتعاون، خصوصا في ظل ما قد يصحب هذه الظروف من اتجاهات نحو الإعلاء من شأن الفردانية والذاتية والأنا والمصالح الشخصية، ويأتي البُعد النفسي كأحد معطيات الظروف الاقتصادية في ظل المشاعر السلبية وحالة الإحباط وعدم التفاؤلية، وعدم الرضا بالواقع المعيشي للمواطن، ناهيك عن تراكم الديون وتوقع بارتفاع القضايا المسجلة في المحاكم المتعلقة بالديون الشخصية، والإيجارات، والفواتير، والديون البنكية، كما أن ارتباط هذه الظروف بأمراض جسدية ونفسية يعيش الفرد أحداثها ويصطلي بنارها، تدعمها الأفكار والهواجس النفسية غير السارة التي باتت تشل فكر المواطن وقناعاته حول الحياة والمستقبل، فإن تزايد هذه الضغوطات سوف يسهم في اتساع دور منصَّات التواصل الاجتماعي في المطالبة بالحقوق، والهاشتاقات المستمرة التي تستهدف توجيه اهتمام الرأي العام لبعض القضايا التي تهم الشارع الاجتماعي خصوصا الباحثين عن عمل والمسرحين من أعمالهم، وتزايد دعوات الشارع العُماني للحكومة بالمطالبة بمحاسبة المسؤولين الحكوميين والمتنفذين من الشركات الحكومية الذين تسببوا في ارتفاع ديون الدولة واختلاس المال العام، والشخصيات الاعتبارية التي استغلت الوظيفة الحكومية في تحقيق مكاسب شخصية، والدعوات بإقالة بعض الوزراء وغيرهم، هذا بالإضافة إلى تكريس لغة الفوقية الاقتصادية بين فئات المجتمع، إذا ما سلَّمنا فرضا بأن الكثير من المواطنين يعيشون تحت خط العوز، وسيكون لمؤشر الفقر والعوز حضوره الواسع في مؤشرات الحالة الاقتصادية بالسلطنة، كإحدى نتائج تدني جودة حياة المواطن وسقف التوقعات لديه؛ ذلك أنه ما زال هاجس ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمسرحين من القطاع الخاص يُخيِّم بظلاله على النسق الاجتماعي، بما ترتب عليه من تراكمات نفسية وفكرية وصحية انعكست على حياة المجتمع، في ظل وجود الأسر ذات الدخل المحدود، والأسر المنتظرة لقائمة الدور لإدخالها ضمن منظومة الضمان الاجتماعي والمساعدات السكنية، لتأتي الأسر المعسرة لتضيف إلى القائمة أحداثا جديدة ومعطيات تنذر بتحديات قادمة في المشهد الاجتماعي العُماني إن لم يتم تدارك الأمر واحتواؤه، ومستوى الثقة والمصداقية التي بات يمنحها الشباب العُماني للقطاع الخاص، الأمر الذي سيضع الحكومة أمام واقع جديد في استيعاب هذه المخرجات ومراجعة الخطط التي وضعتها بشأن إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة وترشيقه، وتأكيدها على ضرورة تحمل القطاع الخاص لمسؤولياته الاجتماعية والوطنية في الحفاظ على الكفاءة العُمانية واحتوائها.
عليه، تصبح قراءة الأبعاد الأمنية وما تحمله من هواجس وشجون، ورصد تفاصيلها المختلفة، ووضع معايير واضحة محددة لقياس توقعات الخطر الأمني الناتج من فتح أي ثغرات قد يُفهم منها مساحة حرية غير مقيدة، وفرصة لتثبيتها في الواقع وانتشارها كظاهرة مجتمعية، ضرورة تنموية في الحدِّ من اتساع فجوة التباينات والتناقضات الناتجة عن التحوُّلات الاقتصادية وتأثيرها السلبي على الثوابت المجتمعية والهُوية والقِيَم، وانعكاساتها على السلم الاجتماعي والأدوار الاجتماعية للمواطن، في ظل الحس الأمني والاستشعار بالمخاطر الأمنية المتوقعة منها، وانتهاج بدائل وخيارات وحلول واضحة لها ـ وعلى سبيل المثال الوقوف على تأثيرات تزايد أعداد الباحثين عن عمل والمسرحين وبطء معالجة ودراسة هذه الملفات الحساسة ـ، وتقييم أثرها الأمني وانعكاساتها على كفاءة ممكناته، والتي في ضوئها يتم تفعيل البرامج والخطط الوقائية والعلاجية والسيناريوهات الاستشرافية والواقعية ذات الصلة في إطار رؤية تكاملية شاملة تقف على حيثيات الأسباب التي أدت إلى اتساع الفجوة الاقتصادية للمواطنين، وإعادة توجيه مسار الإجراءات الاقتصادية بطريقة تضمن حماية كيان المجتمع والمحافظة على نسيجه الاجتماعي، وضمان الإبقاء على تماسك روح الانتماء والولاء والحس الأمني.