د. جمال عبد العزيز أحمد:
القرآنُ الكريمُ هو كتابُ الله الخالد، وهو المَعِينُ الذي لا يَنْضُبُ، وهو الكتاب الكريم الذي لا يَشْبَعُ منه العلماءُ، ولا يَخْلَقُ على كثرةِ الرَّدِّ، أودع الله فيه كلَّ ألوان الإعجاز اللغوي، والبلاغي، وغيره من ألوان الإعجاز، وكلَّ يوم، بل كلَّ لحظة للعلماء فيه اكتشافٌ جديدٌ، وإعجازٌ فريدٌ، ونحن دائمًا نبحث عن الإعجاز البلاغي، واللغوي بوصفنا مِنَ المتخصصين في اللغة، وعلومها، وهنا نشير إلى لون من ألوان هذا الإعجاز، وهو استعمال المعنى الواحد، وكشف الدلالة الواحدة في أثواب بيانية، ولغوية مختلفة بين: الإطناب، والإيجاز، والتوسع، والاختصار، وذلك وفقَ السياق الجاري الذي يريدُ القرآنُ الكريمُ نقلَه، ففي مجال تعديد النعم، وذكر المِنَن الربانية تَجِدُ الأسلوبَ موسَّعًا، والإطنابَ أساسًا، والصور الجزئية تتعانق، وتتآزر، وتتناغم، وتتسابق، وترسُم مع بعضها صورةً كليةً لتلك النعم الربانية المتعددة، وكيف ينشئها الله في أرضه لعباده، وكيف ينعم الله بها على بَنِي الإنسان، وفي بعض السياقات يَذْكُرُها القرآنُ الكريم عاجلةً دون ذكْرِ مراحلِها، وأزمانها؛ وذلك لعلةٍ يريدها، ولمقصد يتغيَّاه، ونتجاوز الكلامَ النظريَّ لنأتيَ بالتطبيق العمليِّ لقضية الدلالة الواحدة بين الإطناب، والتوسع، وبين الإيجاز، والاختصار، وننظر في دواعي كلٍّ منهما، وسببِه، ففي مجال الإطناب، وذكْر النِّعَم، وتعداد المِنَن، وبيان كيفية إيجادها، وخَلْقها، وإخراجِها للناس يقول الله تعالى:(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (عبس 24 ـ 32).
يبيِّن القرآن الكريم هنا كيف يُخرِج الطعامَ من الأرض من لحظةِ نزول المطر من السماء، وتَسَرُّبِهِ إلى الأرض، وتشرُّبها إياه، ثم تشقُّقها، وخروج النبات منها، ونموِّه شيئًا فشيئًا، وتنوعه بين حلو، ومر، وحرِّيف، ومستساغ، ونحوه من الطعوم، واختلاف الأُكُلِ رغم أن الماء الذي تُرْوَى به واحدٌ، ما بين عنب، وقضب، وزيتون، ونخل بكل أنواعه، وأشكاله، وفواكهه، كلُّه يكون متاعًا لنا، ولأنعامنا التي نأكلها لاحقًا هي الأخرى، ونستعملها فيما يرضي الله ربنا- جل جلاله.
فماذا عَبَّرَ القرآنُ الكريمُ؟، وكيف ارتسمتِ الصورُ الحقيقية الواقعية التي حكى القرآنُ الكريمُ طرفًا منها في تلك الآيات من سورة عبس، تبدأ بفعل الأمر (فلْينظرْ) أن ينظرَ الإنسانُ، ويُمعِن النظرَ، ويفتح عينيه، وعقله، وفكره لتلك النِّعَمِ التي يراها أمامه، ويأكلها، ولا يعرف مراحلَ إنباتها، ونموها، وسقياها، وتشقيقها الأرضَ رغمَ ضعفِ نبتتِها، وهوانها عندما ألقيتْ في التربة، وسُقِيَتْ بالماء، وأمرها الله بالخروج، فَشَقَّتِ الأرض التي لا يستطيع الإنسانُ بسهولة شقَّها، وخرجتْ من بين أطواء الثَّرَى فضربتْ في الأجواء، وترعرت، وصارت أشجارًا عالية، معمرة، لا يقف أمام طولِها شَيْءٌ، وتؤتي أكلَها كلَّ حين بإذن ربها، وقد بين هذه النعمة التي بها حياته، واستمراره، فكما أبدعه الله من لا شيء، فقد بيَّن خلقه في الأرض للإنسان ، ووضع كل ما يبقيه من جميع أنواع الأطعمة التي تكفيه، وتبقيه، وتجعله يمارس رسالته، ووظيفته التي خلق لها بكل هدوء، واستقرار، فَذَكَرَتْ كلَّ ما يمكن أن يتعايشَ به في إبداعٍ منقطعِ النظير، وقد علَّقَ أحد العلماء، والمفكرين المعاصرين بقوله:(آياتٌ قِصَار، لا تشغل أكثرَ من سطرين، فيها تسلسلٌ مُعْجِزٌ لأهمِّ النباتات التي تشكِّل الطعامَ الرئيسيَّ لكلٍّ من الإنسان، وأنعامه، حيث تشهدُ هذه الآياتُ ـ بهذه البساطة‏، والدقة‏‏، والشمول،‏ والإحاطة‏ ـ للإله الخالق سبحانه وتعالى، بطلاقة القدرة، وبديع الصَّنعة، وإحكام الخَلْق، كما تشهد له ـ سبحانه وتعالى ـ بالألوهية، والربوبية، والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقِه).
بدأتِ الآياتُ بأسلوب التوكيد لأول مرحلة في النعم، وهي:(أنّا صَبَبنا الماءَ صبًّا)، وتشعرك بسماع صوت المطر ينهمر، وينصبُّ، وتسمع صوته يملأ الأجواء، وينتشر في كل الأنحاء، وحرف الصاد المتكرر مع الباء المقلقلة، يتناغم مع صوت الرعد والبرق، وهذا المفعول المطلق المؤكد للفعل(صَبَبنا الماءَ صبًّا)، حتى لا يزعم أحدٌ أنه يملك تلك المرحلة، ويمكنه أن يفعل مثلها، إنها نعمة المطر المنصب انصبابًا، والمنهمر انهمارًا، وكما أن أحدًا لا يمكنه فعلُ ذلك إلا الله، فكذلك خَلْقُ الإنسان من أول مرحلة من مراحله.