محمود عدلي الشريف:
أيها الصائمون.. إن القناعة ـ إخواني الكرام ـ كنز لا يفني وتجارة لا تبور، فهي الميزان الذي يضبط مقاييس النفوس، وهي الحكمة التي توزن بها العقول، وهي الاستقامة لما يستميل القلوب، نعم! القناعة هي التاج الذي يميز أصحابها عما سواهم، وفي (السراج المنير شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير 3/‏ 429) قال العلقمي هي: (الاكتفاء بما تندفع به الحاجة من مأكل وملبس وغيرهما وهي ممدوحة ومطلوبة).
ولكم أن تتخيلوا ـ إخوة الإيمان ـ ما مدى القناعة في الفطر الذي ذكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كمثال لإفطار الصائم، وعلى الرغم من قلته إلا أنه يعطي صاحبه الأجر كاملًا ، (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ، قَالُوا: لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ، فَقَالَ: يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، مَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنًى بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ: فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا اللَّتَانِ لَا غِنًى بِكُمْ عَنْهمَا: فَتُسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَشْبَعَ فِيهِ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ)(المسند الموضوعي الجامع للكتب العشرة 5/‏ 363).
والشاهد في هذه الرواية النافعة الجامعة ما جاء نصه:(يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ.. الحديث)، وهذا يعطينا أن الأمر ليس بالكثرة فكم من أناس يصنعون أنواعًا شتى من الأطعمة وقد لا يأكلون منها أصلًا أو يأكلون منها القليل، ثم يلقونها بكاملها في القمامة، فلا هم أكلوها وألا أطعموا بها غيرهم، بل ولا هم ادخروا ثمنها، ولهذا أهيب بهؤلاء أن يقيموا أمرهم بالقناعة عملًا بأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،فـ(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أن نَاسًا مِنَ الأنصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَعْطَاهُمْ. ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ. حَتى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَال: مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ. وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ. وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ. وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ. وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ) (الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم 12/‏ 190).
والجميل أنك تجد من المؤمنين من لا يعمل بهذا الأمر النبوي الشريف وحسب، بل يجعل ذلك له نظام حياة يعيش به ويلزم نفسه به عن إيمان واقتناع، دون أدني شعور بنقص أو احتياج، فهو يرضى بالقليل ولا تأخذه ملذات الدنيا ولا ينظر إليها، القناعة تاجه، والصلاة معراجه، والتقوى منهاجه، يعرف أن حقيقة الدنيا ماهي إلا واحدة من ثلاث كما وصفها النبي (صلى الله عليه وسلم)، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي، مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ، وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ)، (صحيح مسلم 4/‏ 2273).
ولهذا يعلو بعض المؤمنين على متطلبات النفس ويصر على غناها بالله تعالى وبما عنده، ومن هؤلاء مثلًا الصحابي الجليل سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، الذي لم يكن يزهد في المال وحسب، وإنما كان زاهد في الدنيا بأثرها، جاء (موسوعة الرقائق والأدب ـ ياسر الحمداني، ص: 2471، بترقيم الشاملة آليًا):(نَزَلَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ بَلْدَةَ حِمْصٍ بِالشَّام، فَقَالَ اكْتُبُواْ لي فُقَرَاءَكُمْ؟ فَرَفَعُواْ إِلَيْهِ رُقْعَةً فِيهَا اسْمُ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ الوَالي؛ فَتَعَجَّبَ عُمَرُ وَسَأَلهُمْ: كَيْفَ يَكُونُ أَمِيرُكُمْ فَقِيرَاً ..؟! قَالُواْ إِنَّهُ لاَ يمْسِكُ مَالاً ـ أَيْ: يُنْفِقُ كُلَّ مَا يحْصُلُ عَلَيْهِ أَوَّلاً بِأَوَّل عَلَى الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِين ـ فَبَكَى عُمَرُ ثمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِأَلفِ دِينَار؛ فَجَاءَ مكْتَئِبَاً حَزينَاً؛ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أَحَدَثَ أَمْر..؟! قَالَ: أَشَدُّ مِنْ ذَلك، ثُمَّ جَعَلَهَا صُرَرَاً وَفَرَّقَهَا وَقَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقُول: « يَدْخُلُ فُقَراءُ المُسْلِمينَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ، بخَمْسِمِائَةِ سَنَة، حَتىَّ إِنَّ الرَّجُلَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ لَيَدْخُلُ في غُمَارِهِمْ ـ أَيْ في جُمُوعِهِمْ ـ فَيُؤْخَذُ بِيَدِهِ فيُسْتَخْرَج).
وما أجمل هذه القصة في هذه الرواية التالية وهي مركز حديثنا اليوم والتي تدل الفضل والخير والإيثار والقناعة والزهد الرضا بما قسم الله ففي(صحيح البخاري 4/‏ 174):(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا).
فالقصة بها من العبر ما لا يسع المقام لذكره ومن هذا صدق المشتري وأمانته، حيث وجد الذهب في الدار وهو ليس من حقه فرده إلى صاحبه، كما أن البائع كان صدوقًا هو الآخر ويبدوا أنه كان لا يعلم عن هذا الذهب شيئًا فرده إلى المشتري على أنه جزء من الدار، وهذا ما جعل القاضي يحتار في أمرهما، فاقترح أن يزوج أحدهما ولده من ابنة الأخر، وأن يتصدقا بالباقي، سبحان الله ما هذا النموذج الفريد، في التصرفات الجميلة والصالحة من أهل مجتمع صالح ما أحوجنا إلى مثله.
ومن عبر القصة:(إذا وَجَد الإنسَانُ مالًا مدْفُونًا يُمْكِنُ معْرِفةُ أصحابِهِ، بأنْ يكونَ مدْفونًا مِن عَهْدٍ ليس بالبعيد، فحكمه حكم اللُقَطَة: يجب البحثُ عن أصْحَابِه، ودَفْعُ المالِ لهم. فإذا كان العهدُ بعِيدًا، ولا يُعرَف أصحابُه بحَال، فهُو كَنْزٌ يملِكُه مَن عَثَرَ عليه بعد أن يُخرِجَ مِنْهُ الخُمسَ: 20%)(دروس وعبر من صحيح القصص النبوي ص: 45).
والخلاصة أننا نحتاج إلى أن نعود أنفسنا الإيثار والإثرة فما عند الله خير وأبقى ولنستثمر صومنا بالقناعة.