د. جمال عبد العزيز أحمد:
..فالله تعالى هو الذي أنعم به على الإنسان بالخلق، ثم بالرزق والنعم، ثم تتوالى هذه المراحل التي تعقب ذلك، وهي:(ثم شققْنا الأرض شقًّا)، بأسلوب توكيد الجمل الفعلية، وهو استعمال المفعول المطلق، ونسبة الفعل إلى الله (شَقَقْنَا) تشريفٌ تامٌّ، وحتى لا يزعمَنَّ أحدٌ أنه يملك مثل هذا، والنتيجة:(فأنبتْنا فيها حَبًّا) باستعمال الفعل الماضي الكناية عن إتمام النعمة وحصول المِنّة، وتنكير (حَبًّا) يُوحِي بشمول أنواعه كلِّها التي تصلح لحياة الإنسان، والحيوان معًا، فالتنكير للعموم، والشمول، وفيه كناية كلك عن اتساع النعمة، وأهميتها، وتنوعها، وأن المُنبِت لها هو ربُّها، ومولاها، وخالقها، ومُنشِئها، فكيف تكون من حيث السعة، والإتقان، والكفاية، والغَنَاء، ثم تواصلت النعمُ تتعدد، بأسلوب العطف، فَتُورَدُ معطوفة بالواو:(وعنبًا وقضبًا) كل ألوان العنب، وأصنافه، وطعومه داخلةٌ في هذا التنكير، والقَضْبُ هو كلُّ ما كان رطبًا، طريًّا غضًّا من كلِّ ألوان الخضرة، يأكلها الإنسان مرة إثر مرة، فيراها رطبةً، مستساغة، فيحمَد الله تعالى على كريم مِنَنِهِ، وجزيل عطائِه، وقد شمل القضبُ جميعَ ألوان الخضرة بكلِّ أصنافها، وأطيافها، والتنكير في اللفظ يؤكد ذلك، ثم تتالتِ النعمُ معطوفة بالواو أيضًا مع الإطناب، والإسهاب؛ لأنه سياق، ومجال تعداد النعم، ورصد كيفية خلقها، وإنباتها، وتفصيل ذلك؛ ليعلم الإنسان فضل ربه عليه، ورحمته به، يقول تعالى:(وزيتونًا ونخلًا) بهذا التنكير في الكلمتين، ليشمل كل ألوان الزيتون: أخضرها، وأسودها، وأحمرها، كبيرها، وصغيرها، وجميع أنواع النخيل على اتساعها، وأصناف فواكهها، ولو تَجَوَّلْتَ بناظريْك في واسع هاتيك البساتين، وما فيها لَعَرَفْتَ مدى نعمة الله علينا ـ نحن البشر ـ وقوله:(حدائق غُلبًا) الحدائق هنا وردت على صيغة منتهى الجموع بوزن(فعائل) وتعني من بين ما تعني ضخامتَها، وتعدُّدَها، وكثرتَها كثرة لا حصر لها، ولا منتهى لها مثل دلالة صيغ منتهى الجموع في أنها الجمع المتناهي في جمعيته، فكأنه الجمع الذي لا جمعَ بعده، فالحدائق تملأ كلَّ بقاعِ الدنيا، وهي تلك البساتين الكبيرة المسورة بجدران ضخام؛ لتحميها، وتمنع أذى الناسِ لها، ولأصحابها، و(الغُلْبُ) من الحدائق هي تلك الحدائق الضخام العملاقة، الملتفة الأشجار، الكثيرة الفواكه، المتنوعة الطعوم، كما نقرأ عن العوائل النباتية الكثيرة بكلِّ أنواعها، وألوانها، وأشكالها من أشجار الخوخ والمشمش والبرقوق والتفاح والبرتقال، والموز، والجميز، وغيرها من كل تلك الفواكه التي تراها في تلك الحدائق المنتشرة، والمتشابكة، والتي تأخذ مساحاتٍ شاسعةً، وفيها من النِّعَم، والخيراتِ ما الله به عليم، ويظلُّ تعداد النعم متواصلًا بالعطف بحرف الواو:(وفاكهةً، وأبًّا) بالتنكير لإفادة العموم، والشمول، فيشمل ما يمكن أن يتصوره العقلُ من الفواكه، وأشكالها، وطعومها، وألوانها، وأنواعها: صيفا وشتاء، وربيعا وخريفا في المناطق الباردة، والدافئة، والحارة: ليلًا ونهارًا، شرقًا وغربًا، والأبُّ هو الكلأ، والمَرْعَى،‏‏ وكل ما تأكله البهائم ـ كالأنعام.. ونحوها ـ من العُشْبِ،‏‏ والحشائش، وغيره من أنواع النبات، رطبًا كان، أو يابسًا، فخلق لها ما تتعايش به؛ لتؤدي مهمتها في خدمة الإنسان، ولم يَنْسَهَا ـ جلَّ جلاله ـ ولذلك كان الختامُ:(متاعًا لكم ولأنعامكم) أيْ: كلّ هاتيك النعم، وكلّ أصنافها هي متاع للإنسان، والأنعام بكلِّ أنواعها، وتنكير (متاعًا) يوحي بكماله، وسعته، وتنوعه، واستمراره، وشموله كلَّ ألوان المتاع، والمتع، والفوائد، واللام للملكية: (لكم)، فلما كان الطعامُ، والمتاعُ ضروريًّا للإنسان عبَّر عنه بالملك، وجمع الضمير يُوحِي باشتراك البشرِ كلِّهم في تلك النِعم، واجتماعهم عليها، وهي لهم كلهم، وفي مجموعهم، والضمير يؤكد ذلك.
ففي تلك الآيات وجدْنا الإطنابَ واضحًا، والتوسعَ في تعداد النعم باديًا، وأن الله أنزله في كتابِه ليتمَلَّاهُ المرءُ بهدوء، وينظر إليه بتأملٍ، ويتعرفُ على نعم الله، وأنه الربُّ الكريم، المتفضل، الوهَّاب، المتنعِّم، وهو الذي يستحق العبادة، والتأليه، والعظمة الكاملة في كونه؛ فقد أفسح القرآنُ المجالَ لهذا الإطناب الذي وقفْنا من خلاله على قيومية الله في خلق النِّعَمِ، ومِنَّتِهِ في إنشاء المِنَنِ، وأنه لا يَقْدِرُ على ذلك إلا الله ـ جلَّ في عُلاه، وتقَّدس شأنه في أرضه وسماه ـ وأما في مجال الإيجاز، واختصار النِّعَم، ومجيئها سريعًا لموافقة سياقها، وتناغمها مع أحداث السورة، ودلالاتها، فيقول اللهتعالى:(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس ـ 24).
* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]