محمود عدلي الشريف:
أيها الصائمون.. ونحن نستثمر صيامنا لننتفع فيه بكل لحظة تمر فكل لحظات الصيام وأوقاته مباركة، نسأل الله تعالى أن يكتب لنا من بركتها أكبر الحظ والنصيب.
أيها الأحباب.. ولأن من حكم الصيام أن يكون المؤمن الصائم متصلًا بربه متفكرًا في خلقه)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران ـ ١٩١)، ولو تأملنا ما حولنا نجد أن كل شيء في نظام محكم وفي عمل مرتب الكل يقوم بدوره المنوط به بكل دقة واقتدار، ففي (جامع البيان للطبري، ت: شاكر24/ 475):(عن بشير بن كعب، قال: سأل غلامان شابان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالا: يا رسول الله، أنعمل فيما جفَّت به الأقلام، وجرَت به المقادير، أو في شيء يستأنف؟ فقال: بَلْ فِيما جَفَّتْ بِهِ الأقْلامُ وَجَرَتْ به المقادِيُر، قالا: ففيم العمل إذن؟ قال: اعمَلُوا، فَكُلُّ عامِلٍ مُيَسَّرٌ لَعَمَلِهِ الَّذِي خلِقَ لَهُ، قالا: فالآن نجدّ ونعمل).
وكل المخلوقات تعرف ربها وتعبده وتسبحه، كما أنها تعرف الحل والحرمة وتعرف تدبير شون حياتها، ومن تلك المخلوقات (القرد) وله من القصص العجيب والعجيب، يقول عنه (الدميري) في (حياة الحيوان الكبرى 2/ 330):(وهو حيوان قبيح ذكي سريع الفهم يتعلم الصنعة.حكي أن ملك النوبة أهدى إلى المتوكل قردًا خياطًا، وآخر صائغًا. وأهل اليمن يعلمون القردة القيام بحوائجهم حتى إن القصاب والبقال يعلم القرد حفظ الدكان حتى يعود صاحبه، ويعلم السرقة فيسرق.نقل الشيخان عن القاضي حسين أنه قال: لو علم القرد النزول إلى الدار وإخراج المتاع، فنقب وأرسل القرد فأخرج المتاع،وهذا الحيوان شبيه بالإنسان في غالب حالته، فإنه يضحك ويطرب ويحكي، ويتناول الشيء بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظافر، ويقبل التلقين والتعليم، ويأنس بالناس، ويمشي على أربع مشيه المعتاد ويمشي على رجليه حينًا يسيرًا، ولشفر عينيه الأسفل أهداب، وليس ذلك لشيء من الحيوان سواه.وهو كالإنسان، وإذا سقط في الماء غرق كالآدمي الذي لا يحسن السباحة، ويأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الإناث، وهما خصلتان من مفاخر الإنسان، وتحمل الأنثى أولادها، كما تحمل المرأة، وفيه من قبول التأديب والتعليم ما لا يخفى. وإذا رأى القرد طعامًا مسمومًا خاف وصاح، روى ابن عدي، في كامله، عن أحمد بن طاهر أنه قال: رأيت بالرملة قردا يصوغ، فإذا أراد أن ينفخ، أشار إلى رجل حتى ينفخ له. سبحان الله! انظروا أخوة الإيمان إلى عجيب خلق الله تعالى في القرود، وفي البخاري عن عمر بن ميمون، أنه قال: رأينا في الجاهلية قردة قد زنت، فرجموها ورجمتها معهم. ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط من بعضها)(المرجع السابق2/ 333)،وروى الحاكم، في المستدرك عن الأصم، وابن جريج عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهو يقرأ في المصحف، قبل أن يذهب بصره، ويبكي، فقلت له: ما يبكيك جعلني الله فداك؟ فقال:
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف ـ ١٦٣)، ثم قال: أتعرف أيلة؟ قلت:وما أيلة؟ قال: قرية كان بها أناس من اليهود، حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضا سمانا كأمثال المخاض، فإذا كان غير يوم السبت، لا يجدونها ولا يدركونها إلا بمشقة ومؤنة، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا يوم السبت، فربطه إلى وتد في الساحل، وتركه في الماء، حتى إذا كان الغد أخذه فأكله ففعل ذلك أهل بيت منهم، فأخذوا وشووا، فوجد جيرانهم ريح الشواء، ففعلوا كفعلهم، وكثر ذلك فيهم فافترقوا فرقا ـ ثلاثةـ: فرقة أكلت، وفرقة نهت، وفرقة قالت:(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأعراف ـ ١٦٤)؟! فقالت الفرقة التي نهت: إنا نحذركم غضب الله وعقابه، أن يصيبكم بخسف أو قذف، أو بعض ما عنده من العذاب، والله ما نساكنكم في مكان أنتم فيه، وخرجوا من السور ثم غدوا عليه من الغد، فضربوا باب السور فلم يجبهم أحد فتسور إنسان منهم السور، فقال: قردة والله لها أذناب تتعاوى، ثم نزل ففتح الباب، ودخل الناس عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة! قال:فيأتي القرد إلى نسيبه وقريبه فيحتك به ويلصق إليه، فيقول الإنسي: أنت فلان؟ فيشير برأسه أن نعم، ويبكي، وتأتي القردة إلى نسيبها وقريبها الإنسي، فيقول: أنت فلانة فتشير برأسها أن نعم وتبكي. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فاسمع الله يقول:(لَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ((الأعراف ـ ١٦٥)،فلا أدري ما فعلت الفرقة الثالثة، فكم قد رأينا من منكر ولم ننه عنه.قال عكرمة: فقلت: ما ترى، جعلني الله فداك أنهم قد أنكروا وكرهوا، حين قالوا:(..مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(الأعراف ـ ١٦٤)؟! فأعجبه قولي ذلك، وأمر لي ببردين غليظين، فكسانيهما. ثم قال: هذا صحيح الإسناد(التفسير الوسيط للواحدي 2/ 421).
وها هو قد جاء بيت القصيد وما يدور حوله موضوعنا أن القرد استطاع أن يعزل بين الحلال والحرام، ـ فقد ورد فيما رواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: لا تشوبوا ـ أي لا تخلطوه عند بيعه اللبن بالماء، فإن رجلا كان فيمن قبلكم يبيع اللبن ويشوبه بالماء، فاشترى قردا وركب البحر حتى إذا لجج فيه ألهم الله القرد صرة الدنانير، فأخذ وصعد الدقل ـ خشبة يُمَدُّ عليها شِرَاعُ السفينة ـ ففتح الصرة، وصاحبها ينظر إليه فأخذ دينارا فرمى به في البحر ودينارا في السفينة، حتى قسمها نصفين، فألقى ثمن الماء في البحر وثمن اللبن في السفينة)، وفي رواية الإمام أحمد، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم:(إِنَّ رَجُلًا كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ فِي سَفِينَةٍ وَكَانَ يَشُوبُ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ وَمَعَهُ قِرْدٌ، فَأَخَذَ الْكِيسَ فَصَعِدَ الدَّقَلَ فَجَعَلَ يُلْقِي دِينَارًا فِي الْبَحْرِ وَدِينَارًا فِي السَّفِينَةِ حَتَّى جَعَلَهُ نِصْفَيْن)، وكأن القرد يعلم البشر من فعلته هذه تحريم الغش في كل شيء وخاصة خلط اللبن بالماء، وأن المال الحرام لا يبارك فيه وسرعان ما يهلك في الدنيا ناهيك عن عذاب الله لصاحبه في الآخرة. فاستثمر صومك بالحلال الخالص.
[email protected]*