د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. ليس المقامُ هنا مقامَ تَعْدَادِ نِعَمٍ، وإنما سياقُ بيانِ مثلِ الحياة الدنيا في سرعة انقضائها، وعجلة انتهائها بإذن الله، فلم يترك القرآنُ مساحةً لبسط القول، وإنما استعمل الأركانَ الأساسية للجملة العربية، ثم استعمل الفاءَ العاطفةَ التي تفيد الترتيب، والتعقيب، والسرعة التي تناسب مع سرعة انقضاء الدنيا، وزوالها، وفي لحظات تقرأ:(أتاها أمرُنا ليلًا أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تَغنَ بالأمس)، وكأنها لم تكن موجودة، ولا كانتْ، فهي كماءٍ أنزله الله من السماء؛ مِنَّةً مِنْهُ وفضلا، فاختلط به نباتُ الأرض، والفاءُ تعني أنه بمجرد نزوله اختلط به نباتُ الأرض، فأزهَرَ، ثم بعدها اصفرَّ، وجَفَّ، واندثر في الأرض، وانتهى، ولم يعد له وجود، فتلك هي الحياة الدنيا، تبدأ، وسرعان ما تنتهي كانتهاء هذه النباتات سريعًا فور زهوها، ثم اصفرارها، وذبولها، وجفافها، وانتهاء حياتِها ؛ وقد نَقَلَتِ الفاءُ سرعة هذا الزوالِ، وتقلبات الحياة، وعدم استقرارها حتى اندثارها، وأنها لهوٌ ولعبٌ، وأن الدار الآخرة هي دارُ القرار التي يجبُ أن نعمل لها، وأن نجهِّز بيوتنا فيها، ونعمِّر لها، لا لتلك الدنيا الزائلة، وقد عبَّر القرآن الكريم عن تلك الدلالة، وهذه السرعة لذهاب الدنيا بقوله:(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد ـ 20).
فما ترى مثلا كمثل هذه الحياة التي وصفها القرآن الكريم، الأمر الذي ينقضي سريعًا ، فهي مثل غيث: "مطر" نَزَلَ ، فأعجب الكفارَ أي الزراعَ نباته وزهوه؛ وسُمِّيَ الزراعُ كفارًا؛ لكونهم يَكْفُرُون وجه الأرض، أيْ يغطونها بالبذور، أعجبهم هذا النبات، وهم يمثِّلون هنا شريحة البشر، وانشغالهم بالحياة، وتعميرها، وتثميرها، لكنَّ النبات الذي أعجبهم (ويمثل هنا كذلك زهرة الحياة الدنيا) هاجَ وزَهَا، ثم راحَ، واصفر، وذبُل، وجَفَّ، ثم صار حطامًا، وشيئًا جافًّا، متساقطا يمشى عليه، وهو كالحياة الدنيا، سرعان ما تزول، وتحول، وتنتهي تمامًا، وتجد الفاءات أيضًا قد أسهمت هي الأخرى في سرعة انتهاء مراحل الزرع الذي هو يمثل هنا مراحل الدنيا، وكلمة: "مصفرا" جاءت نكرةً؛ لبيان مدى الجفاف، ومدى الذبول، والذهاب، وتنكير "حطاما"؛ لبيان ما وصل إليه من التحطم، والانتهاء، وصيرورته ترابًا بعد أن كان زرعًا زاهيًا يملأ العينين مَنْظَرُهُ، ويبقى الحسابُ، والعقابُ، والجزاء لمن أحسن، ولمن أساء:(وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، نعم، هي متاع الغُرور، اقتصر في تعريفها على الركنين الأساسيين للتركيب، والمبتدأ والخبر فقط:(الحياة الدنيا متاع الغرور)، وكلُّ مَنْ مَاتَ أدرك ذلك، ومَنْ عاش، وتغافل عن هذه الحقيقة سرعان ما يدركها، ويدخل في الحسرة، والندامة، والذكيُّ الذي يعيش هذا المعنى، وهو حَيٌّ ليسلك السلوك الصحيح تجاه الدنيا، فلا يغتر، ولا يتكاسل، بل يسارع، ويستثمر عمره بالشكل الصحيح، والتنبه التام لسرعة زوالها، وانتهاء أجلها، وقد عبر القرآن الكريم بالإيجاز أيضًا، وسرعة المضاء للحياة الدنيا بقوله:(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) (الكهف ـ 45).
تلك هي أسرعُ الآيات وصفًا للحياة الدنيا، والتي تبيِّن حقيقتَها الفعليةَ، فهي قد عبر عنها في نصف سطر:" كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ"، ماءٌ نزل من السماء، وسرعان ما اختلط به نباتُ الأرض، ثم أصبح هشيمًا تذروه الرياح، فتلك هي فاءاتٌ متعاقبة، وعباراتٌ متسارعة، وجملٌ متراكبة، ومراحلُ متكركبة، قامتِ الفاءُ فيها برصد تلك السرعة المتعاقبة، ونقل هذه المراحل المتهالكة، فما انقضى السطرُ حتى انتهتِ الحياة، وراح الوجودُ يحكي أن هنا كانت حياةٌ، ولكنْ لم تَعُدْ ثمةَ حياةٌ، فهي عبارة عن هشيم ترمي به في كل مكان هاتيك الرياحُ ، وتلقي به في هذه الفضاءات الفساح، وتنثره من هنا إلى هناك، وهنالك حيث القرى، والسِّيب، والبِطَاح، وتحكي قصة الدنيا الدنيَّة، والحياة التي لم تلبثْ مليًّا، وانقضتْ، وزالتْ، واصفرتْ، وذَوَتْ بعد أن كانت فتيَّة، ولأصحابها هنيَّة، صارت صحراءَ تنعق فيها الأغربة، والبوم، ويبقى هذا القول الكريم التي يتردَّدُ في أجواز الفضاء، يعلن الحقيقة الناصعة البيضاء التي انتهت بها تلك الصورة التي رسمها القرآن الكريم:(وكَانَ اللهُ على كُلِّ شيءٍ مُقتدرًا)، هكذا كان الإيجاز هو المزلفةَ إلى البيان، والإعجاز، كما كان الإطناب في سياقها هو القول البليغ المستطاب، وقد تعانق كلٌّ من جانِبَي الإيجاز، والإطناب في بيان دلالات الكِتَاب، والكشف عن حقيقة الحياة بين الوجود، والعدم، والزهو، والهرم، والجدة، والقدم؛ ليعلم الخلق قدر الحياة، ويمضون وفق مطلوب الله، ويحذروا التسويف، وقد ذكر في القرآن التنبيه عن خطورتها، والتخويف؛ (لِيهلَكَ مَن هَلَكَ عن بينةٍ، ويحيا من حيَّ عن بينة).
* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]