محمود عدلي الشريف:
القراء الكرام.. إنّ الحب في الله نعمة عظيمة وميزة جسيمة وعطاء لمن أوتيه كبير، وفضل لمن رزقه كثير، كان في الزمن القديم ما أكثره!؟، والألفة هي المودة والمودة هي الحب، والحب هو الميل إلى الشيء، وهو نوعان: جبلي ـ أي فطري ـ يغرسه الله في القلب بأسباب أو بدون أسباب، فيحس صاحبه بميل لا سلطان له على دفعه ولا على الحد منه. والنوع الثاني: مكتسب ـ أي: يزرع في القلب من المعاملة والمخالطةـ بتناول أسبابه وتوافر دواعيه فحسن الصورة وجمال الصوت وحسن المعاملة والصلاح والنفع ورفع الضر، كل ذلك من أسبابه غالبًا، فحب الصالحين حب مكتسب ناشئ من حب الصلاح نفسه، وكما قالوا:(إن أي شيء لا يحب لذاته بل لصفة فيه، وإذا كان حب الصالحين حُبًّا لصلاحهم كان حُبًّا لله تعالى وحبا لطاعاته، وحب المسلم لله يؤدي إلى حب الله للمسلم وإكرامه له) (فتح المنعم شرح صحيح مسلم 10/‏ 28).
وعن فضيل بن غزوان، قال:(أتيت أبا إسحاق بعد ما ذهب بصره فقلت: يا أبا إسحاق، تعرفني؟ فقال: أي والله، إني لأعرفك وإني لأحبك في الله ولولا الحياء منك لقبلتك)، (تفسير ابن أبي حاتم، مخرجًا5/‏ 1727).
وفي هذا الزمان ما أقله وما أندره!؟ فالحب في الله في هذا الزمان يبحث عنه الباحثون، ويشتاق إليه المتواجدون، وقد لا يجدونه ـ إلا ما رحم ربي ـ ولهذا كان الحب في الله من كمال الدين ومن صدق اليقين، يقول ابن القيم في كتابه (الروح، ص: 253):(الحب فِي الله هُوَ من كَمَال الْإِيمَان، وأَن الْمُحب فِي الْحبّ تَابع لمحبة الله فَإِذا تمكنت محبته من قلب العَبْد أوجبت تِلْكَ الْمحبَّة ان يحب مَا يُحِبهُ الله فَإِذا أحب مَا أحبه ربه ووليه كَانَ ذَلِك الْحبّ لَهُ وَفِيه كَمَا يحب رسله وأنبياءه وَمَلَائِكَته وأوليائه لكَونه تَعَالَى يُحِبهُمْ وَيبغض من يبغضهم لكَونه تَعَالَى ببغضهم وعلامة هَذَا الْحبّ والبغض فِي الله أَنه لَا يَنْقَلِب بغضه لبغيض الله حبا لإحسانه إِلَيْهِ وخدمته لَهُ وَقَضَاء حَوَائِجه وَلَا يَنْقَلِب حبه لحبيب الله بغضا إِذا وصل إِلَيْهِ من جِهَته من يكرههُ ويؤلمه إِمَّا خطأ وَإِمَّا عمدا مُطيعًا لله فِيهِ أَو متأولا أَو مُجْتَهدا أَو بَاغِيا نازعا تَائِبًا وَالدّين كُله يَدُورعلى أَربع قَوَاعِد حب وبغض وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا فعل وَترك فَمن كَانَ حبه وبغضه وَفعله وَتَركه لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان بِحَيْثُ إِذا أحب أحب لله وَإِذا أبْغض أبْغض لله وَإِذا فعل فعل لله وَإِذا ترك ترك لله)، ومن فضل الحب في الله تعالى أن لهم تعامل خاص يوم يقوم الناس لرب العالمين، ففي (صحيح ابن حبان ـ مخرجًا 2/‏ 332):(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ، قِيلَ: مَنْ هُمْ لَعَلَّنَا نُحِبُّهُمْ؟، قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِنُورِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَرْحَامٍ وَلَا انْتِسَابٍ، وُجُوهُهُمْ نُورٌ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، ثُمَّ قَرَأَ:ﱠ
( ) (يونس ـ ٦٢)، وفي (مسند أحمد37/‏ 444) عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ:(دَخَلْتُ مَسْجِدَ حِمْصَ، فَإِذَا فِيهِ حَلْقَةٌ فِيهَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَفِيهِمْ شَابٌّ أَكْحَلُ بَرَّاقُ الثَّنَايَا مُحْتَبٍ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ سَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ فَانْتَهَوْا إِلَى خَبَرِهِ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَلْقَى بَعْضَهُمْ، فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ انْصَرَفُوا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلْتُ، فَإِذَا مُعَاذٌ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ قَالَ: فَصَلَّيْتُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَلَسْتُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ السَّارِيَةُ، ثُمَّ احْتَبَيْتُ فَلَبِثْتُ سَاعَةً لَا أُكَلِّمُهُ، وَلَا يُكَلِّمُنِي قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ: وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِغَيْرِ دُنْيَا أَرْجُوهَا أُصِيبُهَا مِنْكَ وَلَا قَرَابَةَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. قَالَ: فَلِأَيِّ شَيْءٍ قَالَ: قُلْتُ: لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. قَالَ: فَنَثَرَ حِبْوَتِي، ثُمَّ قَالَ: فَأَبْشِرْ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْمُتَحَابُّونَ فِي اللهِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ يَغْبِطُهُمْ بِمَكَانِهِمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ «قَالَ ثُمَّ: خَرَجْتُ فَأَلْقَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ بِالَّذِي حَدَّثَنِي مُعَاذٌ فَقَالَ: عُبَادَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «حَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، يَعْنِي نَفْسَهُ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَنَاصِحِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى الْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى الْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ بِمَكَانِهِمُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ).
حقًّا ما أعظمها من نعمة وأعمها من فضل، وأختم بهذه الرواية وهي محل حديثنا اليوم الذي رواه مسلم4/‏ 1988)وغيره: عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ، عَلَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ)، ففي هذا دليل على أن المحبة من كمال الإيمان، وأنه لا يكمل إيمان العبد حتى يحب أخاه،وأن الإنسان ينبغي عليه أن يكون حبه لله وفي الله،فالذي يجب على الإنسان؛ أن يسعى لكل سبب يوجب المودة والمحبة بين المسلمين؛ وليس من المعقول ولا من العادة أن يتعاون الإنسان مع شخص لا يحبه، ولا يمكن التعاون على الخير والتعاون على البر والتقوى إلا بالمحبة، ولهذا كانت المحبة في الله من كمال الإيمان) (شرح رياض الصالحين 3/‏ 265)، ويقول صاحب (فتح المنعم شرح صحيح مسلم 10/‏ 29):(المراد من الأخوة أخوة الدين إذ لم يذكر بينه وبين الآخر نسبا بل حصر دافع الزيارة في الحب في الله وذكر القرية الأخرى لبيان المشقة والتحمل في هذه الزيارة قال النووي: في هذا الحديث فضل المحبة في الله تعالى، وأنها سبب لحب الله تعالى العبد وإكرامه، وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب، وفيه أن الآدميين قد يرون الملائكة أقول في صورة غير صورتهم الحقيقية بل يرونهم في صورة بشر مثلا كما كان جبريل يراه الصحابة في صورة دحية الكلبي أو أعرابي)، فلنحيي بيننا روح المحبة لله وفي الله وهو من أقوى أدوات استثمار الصيام.. اللهم تقبل.