محمد صابر عبيد:
تتحقّق شعريّة الفضاء في القصيدة الحديثة حين يستمرّ البحث فيها عن الزمن الضائع والمكان الضائع والرؤية الضائعة، ففي القصيدة الموسومة (سفر إلى الأعلى) للشاعر سعيد الصقلاوي يحاول الشاعر أن يرسم صورة لأمّه وقد أهداها هذه القصيدة صحبة قصيدة قبلها عنوانها (مراكب الأحلام) وجعل القصيدتَين بعنوان واحد هو (أغنيتان إلى أمّي) التي يضع تعريفاً سيريّاً وافياً لها في الهامش: (أمي: هي سليمة بنت سيف بن محمد المخينية معلمتي الأولى ومعلمة القرآن.)
تسير القصيدة خببا على بحر الخبب لتعرضَ صورة الأمّ وهي تعيد إنتاج الفضاء الشعريّ من وحدة الزمن القديم والمكان القديم والرؤية القديمة، ولسان الراوي الشعريّ الذاتيّ يبدي أعلى درجات التعاطف في التقاط زوايا الفضاء:
(لَمْ
تَعْرِفْ أمِّي
ما
كانتْ تُبْدي
لكنْ
دوماً
كانتْ
تسْألْ)
يتوجّه التركيز التشكيليّ التصويريّ نحو قصّ زمن الذاكرة ومحوه من لوحة الوجود الشعريّ حين ينفتح السؤال على (الباقي)، ويتحدّد هذا السؤال عن (الأجمل) بوصفه تعويضاً عن غيره الذي مضى مع نهر الذاكرة الغائب عن مساحة الظهور الشعري:
(هل حقاً
ما بقيَ الأجْملْ)
تتوالى الأسئلة الشعريّة عن وحدات الفضاء الشعريّ وفي مقدّمتها (وحدة الزمن) بوصفها الوحدة الأكثر تأثيراً في حساسيّة التكوين الفضائيّ داخل المشهد، ويتفرّع سؤال الزمن إلى مساحات تبدأ باختبار الشعور حول صورة الوقت:
(ولماذا
لا نشعرُ بالوقتِ
أم أنّ الوقتَ غدا أطولْ)
ومن ثمّ سؤال الإيقاع الصوتيّ النشيديّ الجميل المرتبط بالوقت في نموذج مثاليّ منه يسمح بالحريّة التي تسهم في صوغ الفضاء على النحو المطلوب:
(لِمْ لا
نسْمعُ للعصفورِ نَشيداً
أفلا
يَجدُ الوقتَ الأمْثلْ)
يعقبه سؤال الزمن التذوّقيّ في استعادة للصورة الحسيّة التي تحظى بحسساسيّة تتعلّق بعامل الطبيعة وهو يمنح المكان فضاءه الرؤيويّ المشحون بطاقة الشعر:
(لِمْ لا نشربُ
قهوتَنا تحتَ الشّيْريشِ)
إذ يتجلّى نمط الاستفهام الشعريّ بالأداة (لِمْ) متوجّهاً نحو فاعليّة التذوّق المحدّد بالشرب (لا نشربُ)، وتحدّد أكثر نوعيّة المشروب العالق في الذاكرة الشعبيّة على نحو أصيل (قهوتنا) في المكان المنتخَب (تحتَ الشّيْريشِ)، وهو (شجر معروف في عمان وارف الظلال زكي الرائحة) بحسب الهامش التوضيحيّ للشاعر.
تندفع بعد ذلك سلسلة من الأسئلة الطالعة من ضوء الأداة (لِمْ) كي تطال فعل القراءة الباحث عن أقصى درجات الهدوء:
(نقرأ
في صُحُفِ الأيامِ بلا تَشْويشِ)
ومن ثمّ في السياق نفسه تطال فعل الكتابة الباحث عن أقصى درجات الحريّة تحت سلطة مكان وزمن ورؤية مكوِّنة للفضاء المطلوب:
(نكتبُ
في عَيْنِ الأَضواءِ بلا تَهْميشِ)
ومواصلة حلم الحريّة حين يتاح للذات النظر في المرآة بلا حواجز أو مصدّات أو رقابة تجعل من هذه الفسحة الصغيرة من الحريّة غير قابلة للتحقّق، في ضوء تشكيل الفضاء الشعريّ الذي يستحيل عليه النموّ من غير حريّة ذاتيّة في أبسط الأحوال:
(نَنْظُرُ
في مِرآةِ الذاتِ بلا تفتيشِ)
بما يجعل حلم الطيران قابلاً للتحقّق والذهاب إلى أبعد مساحة زمكانيّة ممكنة تتيح للرؤية الشعريّة المزدانة بالحريّة أن ترسم صورة الفضاء الشعريّ بأعلى كفاءة ممكنة:
(ونُطيّرُ أجْنحةَ الحُلْمِ الزَاهي)
غير أنّ هذه الأسئلة الصوريّة المتلاحقة تقف على عتبة السؤال الزمنيّ الدائر حول الرؤية لاستكناه مصير الحدث الشعريّ في دائرة الفضاء، حيث يتحوّل الزمن (الوقت) إلى سجين مكبّل بيد الفاعل الشعريّ وهو في حالة استفهام قصوى:
(أَبِأَيْدينا الوقتُ مُكَبّلْ)
تنفتح الرؤية الشعريّة في القصيدة على مجال حيويّ آخر يستقطب شبكة من المفردات الفاعلة في تشكيل نموذج الفضاء، يتحرّك قسم منها في دائرة الذات وقسم في دائرة الآخر وقسم ثالث في دائرة الطبيعة على صعيد الموصوفات والصفات والأحوال معاً، كي يتحرّر سؤال الزمن من جديد ويبعث رسائله نحو الأفق المفتوح بحريّة أوسع:
(لِمْ لا نسمعُ موسيقى وغناءَ
أو ضِحْكَ براءَةِ طِفْلٍ وثُغاءَ
أفلا نَسْعدُ بالنّخلِ حَديثاً ورُواءَ
ونَقُصّ مشاعِرَنا أشواقاً وبَهاءَ
نَروي الأشعارَ جمالاً.. حُباً وثَناءَ
أتُرى نَبضُ الوقتِ تعطّلْ)
إنّ شبكة الدوال المتناغمة والمتعاضدة شعريّاً “موسيقى/غناءَ/ضِحْكَ/براءَةِ/طِفْلٍ/ثُغاءَ/النّخلِ /حَديثاً/رُواءَ/مشاعِرَنا/أشواقاً/بَهاءَ/الأشعارَ/جمالاً/حُباً/ثَناءَ/نَبضُ/الوقتِ” تحتشد على نحو ضاغط وعميق ومتشظٍّ؛ تبدَّى وكأنّه مبالغ فيه بعض الشيء، على النحو الذي يسمح للفضاء الشعريّ في القصيدة الانتقال نحو أفق أرحب لتجلّي الرؤية:
(لِمْ لا
تَلْمَسُ
رُؤيَتُنا صبرَ الوجدانِ
ونُزَكّي الإنسانَ
إلى الإنسانِ)
يندفع الموروث الشعبيّ العُمانيّ لأجل أن يعمّق تَبَنْيُنَ الفضاء الشعريّ بحيث يستوفي شروط التكوين الضروريّة للمفهوم، إذ يسهم في توسيع المجال الحيويّ للفضاء كي يشمل كلّ ما له صله بالروح والممارسة والفعل والخيال والرؤية والمكان والزمن والحال، ويكون المحيط الاستفهاميّ هو الأداة الأسلوبيّة لاحتواء عناصر الفضاء وتشكيلاته:
(لِمْ لا
نَرْزَحُ
في الميدانِ
أوْ نَبْرَعُ
بين الإخوانِ
أو يُطْربُنا العازي)
تحتشد هذه الصورة المشهديّة الشعريّة بهذا الموروث الشعبيّ بما يشرحه الشاعر في الهامش حول كلّ مفصلِ موروثٍ شعبيّ من مفاصل الصورة، فنعرف أنّ (نَرْزَحُ) هي (رقصة الحماسة في عُمان)، ونعرف في السياق نفسه أنّ (نَبْرَعُ) هي رقصة الفرح في جنوب وشرق عُمان، وأنّ (العازي) هو (إنشاد حماسيّ فرديّ يصحبه جوقة)، تندرج كلّها في تشكيل شعريّ حركيّ يبهج الحالة الشعريّة الإنسانيّة تحت خيمة الفضاء الشعريّ.
تُستكملُ حيويّة الصورة المشهديّة الشعريّة في ملحق استفهاميّ يثير إيقاعاً صوتياً آخرَ قادماً من مصدر مختلف، ويسعى إلى تشييد الرؤية الإيقاعيّة الخاصّة بضرورات بناء الفضاء الشعريّ في نموذجه النوعيّ الخاصّ هنا:
(لِمْ لا
نُصْغي
للماءِ يُثَرْثرُ في فلجٍ)
فيكون الإصغاء لثرثرة الماء في حساسيّة استعاريّة تستعير إيقاعها ومعناها من معنى (فلج) الذي يعرّفه الشاعر بأنّه (ساقية الماء الرئيسة وهو نظام ريّ تمتاز به عُمان)، بما يحمله هذا الماء -القادم عادةً من بطون الجبال- من صفاء ونقاء وأمل.
يتحوّل الماء هنا إلى فضاء شعريّ مؤنسن ويوفّر طاقة وجدانيّة مضافَة تحيل على الزمن الأوّل المرتبط بزمن الأمّ، فما بين رحيلها وبقاء الأشياء المتعلّقة بها ثمة مسافة عاطفيّة تتحمّل مزيداً من المناجاة والمساءلة والنجوى:
(فَيُناغي
داخلة الإحساس بلا حرَجٍ
أبِأحْجار الوقت تَنَكَّلُ
رحَلتْ
أمّي
رحل الزَّمنُ الأولْ
لكنْ
مِنْها
بقيَ الوقتُ الأَجْمَلْ)
تنفتح الصورة الشعريّة هنا على مساقَين اثنَين؛ يتعلّق المساق الأوّل بفكرة رحيل الأم وتمسّك الزمن الأوّل بها بوصفها حارسةً له، ويتعلّق المساق الثاني بمحاولة إبقاء حضور الأم فيما تبقّى من الأشياء الجميلة التي تحيل عليها وتذكّر بها، لذا فإنّ عبارة (الوقت الأجمل) هي العبارة الشعريّة التي تمثّل لحظة التركيز الشعريّ في الخاتمة، لتضع بصمتها على المناخ العام في القصيدة وتعمل في إطار البديل الشعريّ بما يمتلك من إمكانات وافية.
(.) ما تبقّى من صحف الوجد، سعيد الصقلاوي، المركز الدولي للخدمات الثقافية، بيروت، ط1، 2020: 25.

❋ أكاديمي وناقد عراقي