د. خصيب بن عبدالله القريني:
في العادة يكتب التاريخ المنتصر، تلك مقولة حفظناها وعرفنا سببها، رغم أنه في أحايين كثيرة يكتب الانتصار الفائز والخاسر معا بحيث يدعي كل واحد منهم أنه الفائز والمنتصر، ولكن في كلتا الحالتين تتم الكتابة عن القادة والحكام فقط، فمن وجهة نظرهم هم من يصنعون التاريخ، ولكن الواقع يقول إن من يصنع التاريخ ليس فئة محددة، بل جميعنا نتشارك في هذا الأمر. فلو قسنا الأمر في مجال الحروب التي تعج بها كتب التاريخ لوجدنا العديد من أصحاب المهن والخبرات الذين لولاهم لما تكوَّن أي جيش في العالم، فأين أولئك من كتابة تاريخهم وإنجازاتهم. ولو تحدثنا عن أي تطور في أي مجال لوجدنا هنالك أشخاصا يعملون بصمت وينتجون بصمت ولا أحد يهتم بكتابة تاريخهم رغم أن توقفهم عن القيام بأدوارهم يوقف عجلة التاريخ في الأساس، ولكن هذا هو ما درجنا عليه من الأزل إلى يومنا الحاضر.
أستذكر هذا الموضوع عندما أقرأ العديد من الكتب التي بدأ من خلالها الأدباء العُمانيون في وقتنا الحاضر الالتفات إلى هذه الفئة من البشر في مجتمعهم الضيق، ومحاولة إبراز إسهاماتهم في الحياة؛ إدراكا منهم لأهمية الكتابة عن هذه الفئة، فمن لهم إذا لم نقم نحن بكتابة تاريخهم وتقديمه للناس وللأجيال القادمة لكي تستمر جذوة القدوة والتعرف على إنجازات الأجداد والآباء ومحاولة تقليدها والإضافة عليها؟ فالواقع يقول لا يمكن البناء على فراغ، بل لا بُدَّ من أساس ننطلق منه.
لقد كان كتاب (كائنات الردة) للمتميز سليمان المعمري من أروع الكتب التي قرأتها في هذا المجال، فقد ركز على تقديم هذه الفئة من واقع البلدة التي يسكنها، شخصيات لا يمكن أن يعرفها إلا سكان تلك القرية، ولكن أثرها كبير، سواء في ما يتعلق ببناء علاقات اجتماعية أو القيام بأدوار مهمة في محيطها الضيق. لقد تم تقديم هذه الشخصيات بأسلوب شيق يبرز الجوانب الإيجابية لتك الشخصيات وعلاقة الكاتب بهم، والسؤال هنا: لو لم يقوم المعمري بهذا الدور، هل سنعرف هذه الشخصيات، وأثرها على المجتمع الذي تقطنه؟ والأثر هنا نسبي وفي نطاق بيئة ذلك المجتمع، فليس مهمًّا نوعه بقدر أهمية وجوده، فالحلاق الذي ننظر لمهنته بكثير من الدونية هي في الواقع ذات أهمية كبيرة. تخيل عدم وجوده في القرية ما الذي سيحدث إذا حصرنا كل المجالات في نطاق تلك القرية فقط؟ وفي هذا دلالة أخرى أيضا على التركيز على شخصيات لا تمت بِصِلة في جذورها للقرية، ولكنها ساهمت في كتابة تاريخها، وبالتالي من حقها علينا أن ندون ما قامت بها تقديرا لها.
وإذا انتقلنا لكتاب آخر وفي ولاية أخرى، وهي السويق وتحديدا منطقة الخضراء، للكاتب محمد الصالحي والذي حاول جاهدا أن يبرز تاريخ هذه القرية الوادعة على بحر عُمان، وقسم تاريخها إلى ثلاثة أقسام يركز في الأول على الإنسان وفي الثاني على الأماكن وفي الثالث على الأساطير المتداولة، ففي الجزء الأول تتبع تاريخ العديد من الشخصيات ذات الأدوار المحورية في تاريخ القرية وعلى مختلف الأصعدة، سواء الرياضية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، تاريخ وأحداث وشخصيات ما كان ليعرفها أحد لولا هذا الكتاب الشيق في أسلوب تقديمه، مدعما كل ذلك بالعديد من الوثائق والصور.
إن القدرة على توثيق شخصيات وأحداث كل حيز مكاني مهما صغر هو الذي يعطي للتاريخ أهميته، فمن خلال قراءة سير تلك الشخصيات نستطيع أن نحدد بوصلة الأنشطة والفعاليات المختلفة التي كانت تمارس في تلك البقعة الضيقة ونستطيع أن نتعرف على جوانب التكافل المجتمعي أيضا وعلاقة تلك القرية ببقية القرى والمناطق، في تكامل يبرز تاريخ الدولة بصورة عامة، وغيرها من الجوانب التي يبحث عنها المهتمون بكتابة التاريخ بصورة عامة، فهؤلاء إذا لم نكتب عنهم من سيكتب عنهم؟ هل ننتظر أن يأتي مؤرخون من الخارج للكتابة؟!!!