أ.د. محمد الدعمي:
لو أراد الآثاريون والمؤرخون عامة كتابة تأريخًا للمدنية، فلا بُدَّ أن يباشروا بتاريخ بلاد الرافدين، حيث أظهر سكان هذه البلاد شغفًا واهتمامًا لا يمكن إغفاله بالتجمعات السكانية الحضرية، مؤشرين بذلك انتقال الإنسان من طور "جمع القوت"، إلى طور "إنتاج القوت"، حيث ظهرت هناك أولى القرى في التاريخ، ناهيك عن أن هذه القرى ما لبثت وأن تضخمت عبر التاريخ، وذلك بتهافت السكان إليها، متطورة إلى أولى المدن في عصور ما قبل التاريخ، من "سومر" و"أكد"، إلى "نينوى" و"أريدو" و"بابل"، بل صارت هذه المدن بحد ذاتها عناوين لحقب تاريخية مهمة شكلت قصة العالم القديم، من نوع الحضارة الأكدية والسومرية، والحضارات البابلية، من بين سواها.
في تلك العصور الغابرة بزت مدينة بابل سواها من حواضر العالم في الأهمية، درجة أنها تحولت إلى "حلم" أعظم أباطرة التاريخ، من الإسكندر الكبير وقادته الأربعة الذين خلفوه، حتى "قورش" الفارسي: فالذي يحتل بابل ويضمها، هو الأعظم بين أباطرة وملوك العالم عبر تلك الحقب القديمة. بقيت بابل هي معيار عظماء التاريخ، حتى بداية الفتح الإسلامي الذي حول الفاتحين القادمين من الصحارى العربية إلى سكان مدن، فتأسست على ضفاف دجلة والفرات وسواها من أنهار العراق الغزيرة أولى وأعظم الحواضر الإسلامية، وأخص بالذكر كلًّا من "الكوفة" و"البصرة"، ناهيك عن بغداد التي استحالت إلى مدينة كونية تهفو إليها أفئدة العلماء والفلاسفة والأطباء (من الصين إلى أوروبا) عبر عصر "بيت الحكمة" البغدادي، وهو عصر الخليفة العباسي المأمون.
وهكذا، بقيت بلاد الرافدين تصنع الحواضر العظيمة وتقدمها للعالم جواهر لا يخفت بريقها، مؤشرة تحقيبات التاريخ القديم والوسيط حتى تاريخ تدهور الحضارة العربية الإسلامية بعد نهاية الخلافة العباسية، إذ أحال القائد المغولي التتري، هولاكو خان، مياه نهر دجلة، الذي يقسم بغداد، إلى اللون الأزرق والأحمر بسبب ما سكب من حبر، وما سفك من دماء مغرقًا المخطوطات والكتب.
أما اليوم، فنحن ننتظر أن تنهض بغداد من جديد، كما نترقب اضطلاع سكان الرافدين ببناء حواضر عظيمة جديد، ترفد الحضارة الآدمية بأذكى العقول وأعظم المنجزات.