د. يوسف بن علي المُلَّا:
يدرك الجميع بأن الصداقة هي نوع من أنواع المحبة، تختلف عن محبة الوالدين أو الإخوة، كما هو الحال للزوجة والأبناء، لكنها بكل تأكيد تظل نوع من أنواع الحب. وهكذا كلما تقدمنا في السن كلما احتجنا إلى أصدقائنا، ويصبح جليا أنه من الصعب الاحتفاظ بهم للأبد! أو تدري لماذا؟ لأن الحياة يا أعزَّاء تعطي وتمنع وتمنح وتأخذ وتفرق وتقرب، وفيها مقاربات ومفارقات غريبة لا نعرف تفسيرها مهما حاولنا!
كيف لا؟ وفقد أو وفاة الصديق خسارة يواجهها معظم الناس في مرحلة ما من حياتهم، بل غالبًا مرات عديدة. فعندما تفقد صديقا قريبا، تشعر وبشكل مفاجئ أن رصيدك في حسابات السعادة قد تجمد. لقد أحسست بأن الساعة توقفت، كما هي الآن منذ أن سمعت خبر وفاة رفيقي الدكتور عبدالعزيز الفارسي، وبالرغم من أن الحروف التي أصوغها مشوشة، إلا أنها تحاول أن ترسم ملامحه، إلا أن كلماتي تعود فترتبك مرة أخرى، وأنا أتذكر روحه الشفافة وصدقه النبيل، ونحن نتحادث أو نتواصل من أجل مريض فتتجلى إنسانيته دائما وتعاونه مهما كانت الظروف. وللأسف لعلنا لم نكمل الحديث وسرد روايته ولكنه بكل تأكيد قد وجد السلام في دار السلام، وها أنت تقوم الآن بتوزيع ابتسامتك على الخالدين في دار الخلود، كما عهدتك دائما وأن توزعها على كل من قابلك.
ولعلَّه عند وصول خبر الفقد، يبدو الأمر غير واقعي للوهلة الأولى، وتشعر فجأة بتخدر شديد في أطرافك، وتعتقد أنه حلم وكل شيء سيكون على ما يرام، ولكن عندما تعود إلى حواسك يصبح الموقف أكثر إيلامًا. تعتقد أنه في اليوم التالي سوف يتصل بك أو ستسمع خبرا مبشرا بتحسن صحته. بالواقع إنه أمر صعب للغاية، فحين تذهب لالتقاط الهاتف للاتصال بهم لإخبارهم عن يومك، وبعد ذلك عندما تبدأ في الاتصال برقمهم، تتذكر أنهم لم يعودوا على قيد الحياة. وللأسف الشعور بأن هذا لن يحدث يجعلك تشعر بالعجز ويزداد الوضع سوءًا؛ لأن عقلك يقول لك بأن تتقبل هذا ولكن قلبك يدينه، سوف تتعب يومًا ولكن تعي جيدا بأن هذه هي حال الدنيا وهذه سنة الله في خلقه.
وبشكل ما، فالحزن هنا مختلف للجميع. فهو يتجلى بشكل مختلف في الأشخاص المختلفين ولا تتشابه تجربة الحزن مع أي شخص. وغالبا ما يعاني الناس من ردود فعل حزن في موجات ـ إنْ صحَّ لي القول ـ تأتي وتذهب، وفي كثير من الأحيان، يكون الحزن أكثر حدة بعد فقد شخص ما بوقت قصير. لكن بعض الناس لا يشعرون بالحزن على الفور. قد يشعرون بالصدمة أو عدم التصديق. وحقيقة قد يستغرق الأمر وقتًا حتى يتم إدراك أن الشخص قد رحل.
ومهما يكن، نحن نبكي الراحلين مع أنهم انتقلوا إلى حياة أخرى وفي انتظار حياة ثانية، ونحن جزما نسير نحوها، سواء أحببنا ذلك أم لا؟ ألا نعي أننا نحزن عليهم ليس فقط لأنهم فارقوا الدنيا، بل إننا نحزن على أنفسنا لأنهم تركونا وشأننا؟ كيف لا؟ وها هي شموع ذلك الفقيد قد انطفأت في حياتنا، وكأنه إعلان حقيقي لا زيف فيه بأن قطار الحياة ماضٍ، والقدر لا مفر منه... أوَليس كذلك؟
ختامًا، عندما تفقد عزيزًا، ويسكن ذاك السواد روحك، تستغرب كيف أن الحزن لم يسد الكون كله، وكيف أن الشمس أشرقت في موعدها.. إنها الدنيا دار الفناء! فنم قرير العين أيها الصديق، أما نحن سنبقى ننتظر ذلك اليوم الذي سنستيقظ فيه من حلم الحياة!
رحمك الله أخي الدكتور عبدالعزيز... وأسكنك جناته.