د. جمال عبد العزيز أحمد:
..فصفاتُ الحروف بَيَّنَتْ عُلُوَّ صوته، وارتفاع عقيرته دونما جدوى، وفيه كناية عن ضعفه، واهترائه، وعدم ألوهيته، وخوائه الفكري والْعَقَدِي، وأنه عبدٌ تجري عليه سماتُ المخلوقين من الضعف، والغرق، والموت، ثم تمثَّل الكبر كذلك في بقية عبارته التي نقلها إلينا الكتابُ العزيز: (آَمَنَتُ أنَّهُ لا إلَه إلا الذي آَمَنَتْ به بنُو إسرائيلَ)، هنا حرف مد (آ) في (آَمَنَتْ)، وهو يأخذُ وقتًا يختلف عن الهمزة، فانصرفَ إليه فرعونُ ليأخذ وقتًا ربما أدركَهُ أحدٌ، وأخرجَه ممَّا هو فيه، وكذلك محطةٌ أخرى في الوقف هي سكون النون(آمنْت)، وفيها إخفاء يأخذ قدر حركتين، وفيه إخفاء لدلالة اللفظ، كأنه لا يريد النطق به؛ حتى لا يراه أحد، وهو يُظهِر إيمانَه، بل هو يتخفى وراء النون بصوت خفيٍّ نقله الإخفاءُ، وهي مزلفةٌ كذلك إلى تأخير النطق بكلمة الإيمان التي كان قبلُ يَكْفُرُ بها، وبكل مَنْ يتفوَّه بها، ثم يستمر التجويد في تأخير نطق فرعونَ بكلمة الحق، وكِبْره في ذلك، بالإدغام الوارد في النون من:(أنه) حيث الإدغام بغنة، وقدره حركتان وجوبًا، وهو إدغام يُخْفِي وراءَه لفظ الإقرار، والاعتراف، وأخَّر الزمن كذلك؛ إذ ربما أنقذه أحدُ أتباعه، ومن يعتدُّ به إلهًا ـ كما كان يزعم ـ ثم تتوالى قواعدُ التجويد في كشف الكبر، وفضح الغطرسة الفرعونية في وقتٍ هو أحوجُ ما يكون فيه إلى سرعة الإظهار، والتعجل في الإقرار، وعدم التخفي، والإدغام، لكنه الكبرُ يظلم صاحبَه، ويأتي المدُّ المنفصل يعقبه المدُّ المتصل في قوله: (لا إله إلا الذي آمنتْ به بنو إسرائيل)، فالمد المنفصل يتراوح بين حركتين إلى خمس حركاتٍ جوازًا، لكن فرعون من المؤكد أنهم يتوقعون أخذَه لآخرِ مدًى زمني ممكن في نطقه، وقوله هذا، وحرف الألف في(إله) يأخذ هو الآخر وقتًا، وتشديد اللام في(إلَّا) يأخذ وقتا حيث تردد اللسان، وكذا الألف واللام في (الَّذي) تأخذ هي الأخرى وقتا، وهو يترنَّح وراء قواعد التجويد؛ليتأخر زمنًا،ويتلكأ عن سرعة الاعتراف، والإقرار بألوهية الله تعالى،لعله يدركه أحدُ أتباعه، ويُخرِجُه مما هو فيه من الموت، والغرق المحقَّق، ثم تتعاقب حروفُ المد:(آمنَتْ)،فتؤخره قليلا، وتأتي تاء التأنيث رغم أن كلمة:(بنو) جمع (ابن)، وتلك الكلمة مذكَّرَة، ولكنْ، يجوز أنيأتي الفعل معها مذكرًا(آمن به)، لكنَّ اللغة، وإمكاناتها، ووسائلها في التعبير جاءت بالفعل هنا وقد لحقته تاء التأنيث الساكنة:(آمنتْ به بنو إسرائيل)، وفيها زيادة حرف هو التاء الساكنة، وقد جاء مسكَّنًا ـ كما هو حرف التأنيث ـوذلك ليتأخر زمن الاعترافُ، ويتأجل وقت إيمانُه، وإقراره، لعله يُنْقَذ، أو يَنْجُو بإدراك أتباعِهِ له، وكلمة:(بنو)فيها مد، وفي الرسم القرآني يوجد بعدها ألفٌ، وكلُّها محطاتُ تأخير، وفي:(بنو إسرائيل) مدٌّ منفصلٌ،قَدْرُهُكذلك من حركتين إلى خمس، وفرعون من المؤكَّد أنه لو كان يفهم قواعدَ التجويد لاختار خمس حركات؛ تأخيرًا، وعدمَ مسارعة، والمدُّ المتصل في كلمة:(إسرائيل)، وهو أربع حركات وُجُوبًا،ولزومًا، لا اختيارًا، وجوازًا، وهي فرصة كبيرة لتأجيل الإقرار، وتأخير الاعتراف.
كلُّ تلك القواعد من صفات الحروف، والإخفاء، والإدغام، وضوابط المدود بأنواعها: المنفصلة، والمتصلة، وأحكامها، والتاء الساكنة، كلها أزمنة تؤخر نطق اللفظ، وتعدُّ محطاتِ توقفٍ، وتلكؤٍ، وتأخُّرٍ عساه يدركه أحدٌ، أو يُنقِذه إنسانٌ، ولو كان إلهًا ـ كما زعم وتخيل ها المتكبر ـ لأنقذ نفسه ب «كن»، فيكون، أو أمر البحرَ أن يلفظه خارجَه، أو أن يَنْضُبَ ماؤًه، ولكنَّ كلَّ ما تفوَّه به يدل على ضعف عقله، واهتراءِ فِكْره، وانهدام نظريتِه في التأله،والتكبر، ثم لمَّا جاء لِيُلَخِّصَ قضية الإيمان، والإقرار الشخصيِّ عندما أحكم عليه الغرقُ، وأطبق الموتُ ماذا قال؟، قال:(وأنا من المؤمنين)،ومعروف من قواعد التجويد أنه إذا ورد السكون المستدير فوق الألف،فهذا يعني أنه غير منطوق، وكأنَّ القاعدة التجويدية ساعدتْه في نقل الكِبْر سريعًا، وعدم التوقف طويلا أمام كلمة:(أنا) التي تعني تمام الإقرار، وكمال الاعتراف، ولكنه قالها بشكل سريع، ولَوْنٍمتعجِّل، كأنه لم يسمعْه أحدٌ، وكما نرى فقد تعانق التجويد، وقواعده مع الدلالة القرآنية، وسياقها، وتفاعلًا، وتناغمًا في نقل حجم الكبر، وطبيعة الغطرسة، وصورة الكبرياء، وسِمَة الصلف الذي كان عليه فرعونُ؛ ولذلك استحق هذا الختامَ القاسيَ المناسبَ لطبيعته الآثمة،ودخيلته المهترِئة:(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ).
وقد رأينا في هذه الآية كيفَ تناغم التجويدُ، وقواعده مع السياق، والدلالة، ومتطلباتها، وكيف أبرز التجويد المعنى التام، وكشف عن دلالات السياقات القرآنية المتنوعة.