د. جمال عبد العزيز أحمد:
في مثل هذا اليوم من السنة السادسة للهجرة المباركة، ذهب الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، ومَنْ معه من المؤمنين لأداء سُنَّةِ العمرة، ولكنَّ قريشًا منعوه، وصحبه الكرام من ذلك، واتفقوا على أن يعودَ الرسولُ، وصحبه الكرام هذا العام دونما اعتمار، وأن يُعاوِدوا الاعتمار من العام القادم، وحَزِنَ كثيرٌ من المسلمين، وغضبوا من ارتضاء هذا الاتفاق، واعتبروه دنيَّةً في الدين، ولكنَّهم سلَّموا، ورضخوا لرأي الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، ومنهم سيدُنا عمر، وقصة حزنه، وغضبه، وقوله على الملأ معروفة مشهورة، وتعقيبات سيدِنا أبي بكر عليه مشهودة، مشهودة، ولكنَّ الله تعالى ـ سمَّى صلحَ الحديبية هذا، ومبايعة الصحابة للرسول في بيعة الرضوان ـ سمَّاه فتحًا مبينًا، ونصرًا عظيمًا؛ تخفيفًا، وتسريةً عن المسلمين، وعمَّا غمَّهم من عدم الاعتمار هذه السنة، والعودة من قابل، وهو بالفعل نصر، وفتح كبير، حيث أقامت قريش للمسلمين من بعدها ألفَ حساب، وصار لهم منزلة، ومكانة، وتفاوض، مع قريش التي كان لا تعير المسلمين اهتمامًا في بداية ضعفهم، ولا تقيم لهم وزنًا، وتعاملهم على أنهم خارجون، ودون أن يُجْتَمَعَ بهم، ولا بأيِّ شيء يخصهم، ولكنها رضخت إلى المصالحة، والمهادنة معهم، وفي ذلك فتح مبين، كما سجل القرآن الكريم، وسواء اعتبر كثيرٌ من المفسرين هذا الفتح هو صلحَ الحديبية، وبيعة الرضوان، ولم يَعُدُّوه فتحًا لمكة، وعدَّه المتأخرون من المفسرين، والعلماء حديثًا عن فتح مكة، لا صلح الحديبية يوم بيعة الرضوان، والمهم في الاعتبارين أنه فتحٌ، ونصرٌ، وتمكينٌ، وأنَّ الله تعالى سمَّاه في قرآنه الكريم فتحًا؛ تبشيرًا لهم، وتخفيفًا عنهم، وإزالةً لغَمِّ قلوبهم، وهَمِّ أفئدَتِهِمْ بعودتهم دون أداء العُمرة، ونحر هديهم، وفكِّ إحرامهم دون اعتمار، وندور هنا حول بعض الآيات بيانًا لبلاغتها، وتوضيحًا لتربوياتها الكثيرة، ومنها مطلع سورة الفتح، وسورة النصر، يقول الله تعالى:(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (الفتح 1 ـ 4).
تبدأ بأسلوب التوكيد الذي أداته (إنَّ)، المتصلة بنون العظمة (إنا)، واستعمال الفعل (فتح) الماضي رغم أن الفتح لم يحدثْ بعدُ، وإنما هو في الظاهر انكسار، وحزن المسلمين برجوعهم دونما اعتمار، واستعمال أسلوب التوكيد فيه تمكين، وتثبيت، وتقوية، وتعميق للمعنى الكريم الذي يريد القرآن الكريم ترسيخَه في نفوس الصحابة الأبرار، واستعمال الماضي (فتح) يفيد حصوله، وتأكيد حدوثه؛ لأنه ليس هناك أصدق من الله قيلًا، ولا أصدق منه حديثا، وهو العليم بالزمن، وأحداثه، وخالق النصر والفتح وتبعاته، ولكن علَّمهم أنه إذا قال شيئا وجب الإيمانُ به، ولزم التسليم له، واليقين به، وعدم التقدم عليه بقول، ولا رأي، وإلا فسيكون كلُّ مَنْ توقف، ولم يصدق به عاصيًا، وضالًّا ضلالًا مبينًا، يقول تعالى:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب ـ 36)، وعلَّمهم من قبلُ أن يسلموا بكلِّ قضاءٍ، وحكم لله ـ جلَّ جلاله ـ وأن ذلك طبعُ المؤمنين في كلِّ ما يقضيه الله، ورسوله، وأنهم أهلُ تسليمٍ، وإخبات، يقول الله تعالى:(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور 51 ـ 52)، وأنه لا يجوز التقديم أبدًا بين يدي الله ورسوله، يقول تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات 1 ـ 3).
فالفتح قد تَمَّ، ووجب الاعتقاد في قول الله، وتبشيره، وهو مؤكَّد بكل ألوان التوكيد: بالجملة الاسمية، واستعمال (إنَّ) المشددة النون، واستعمال نون العظمة، واستعمال المفعول المطلق أكثر من مرة، ومجيء الصفة التي تزيد توكيده، فهو مفعول مطلق مبين للنوع (إنَّا فتحنا لَكَ فَتحًا مبينًا).