محمود عدلي الشريف:
أيها الإخوة الأحباب.. يقول ابن كثير:(هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه - من ذكر أو أنثى، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله - بأن يحييَه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيَه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة) (تفسير ابن كثير 4/‏ 601)، وعليه فإن غاية السعادة التي يبحث عنها جميع الناس لا تكون ولن تكون إلا في طاعة الله سبحانه والتسابق إلى كل عمل يحبه ويرضاه، وطاعة رسوله الكريم (عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم)، فإن العمل الصالح لا يذهب هباء بل إنه يرفع عن الإنسان ما ينزل به من ضر ويحجب عنه ما لا يسر، وهنا سؤال يطرح نفسه: ما هو العمل الصالح الذي ينتفع به العيد في الدنيا والآخرة؟ والإجابة عليه ببساطة أن كل ما يرضاه الله تعالى من أقوال وأفعال وأعمال مما يشتمل على أعمال القلوب والجوارح معا بداية من أعظم وأجل أعمال للقلوب وهي توحيد الله جل جلاله والخوف منه والرجاء فيه، والخضوع له والإنابة إليه والتوكل عليه، والتعلق به، ومراقبته في السر والعلن، وفي هذه الحالة فإن عمله الصالح يقف حائلا بينه وبين ما يصيبه، في دنياه وكذلك في أخراه، وإليكم إخواني الكرام مثلا حيا يدل على نفع العمل الصالح لصاحبه في الدنيا، روى مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قَالَ:(بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ ـ الْغَار: النَّقْب فِي الْجَبَل يشبه الغرفة الصغيرة، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِله، فَادْعُوا الله تَعَالَى بِهَا؛ لَعَلَّ الله يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ». فَقَالَ أَحَدُهُمْ: «اللهمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَامْرَأَتِي وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ ـ أي: إِذَا رَدَدْت الْمَاشِيَة مِنْ الْمَرْعِي إِلَى مَوْضِع مَبِيتهَا ـ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ ـ المَعْنَى: أَنَّهُ اِسْتَطْرَدَ مَعَ غَنَمه فِي الرَّعْي إِلَى أَنْ بَعُدَ عَنْ مَكَانه زِيَادَة عَلَى الْعَادَة فَلِذَلِكَ أَبْطَأَ عليهم ـ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ ـ الْإِنَاء الَّذِي يُحْلَب فِيهِ، أو اللَّبَن الْمَحْلُوب ـ فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ ـ أَيْ: يَصِيحُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ مِنْ الْجُوع ـ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ»، فَفَرَجَ الله مِنْهَا فُرْجَةً فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ، وَقَالَ الْآخَرُ: «اللهمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا ـ «وفي رواية لمسلم أيضًا: فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنْ السِّنِينَ ـ وَقَعَتْ فِي سَنَة قَحْط ـ فَجَاءَتْنِي» ـ فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: «يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ وَلَا تَفْتَحْ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ»، فَقُمْتُ عَنْهَا، ـ «وفي رواية للبخاري: فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ» ـ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً» فَفَرَجَ لَهُمْ. وَقَالَ الْآخَرُ: «اللهمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ ـ الْفَرَق إِنَاء يَسَع ثَلَاثَة آصَع، والصاعُ مِكيالٌ لأَهل المدينة يأُخذ أَربعة أَمدادٍ. والمُد مُقَدَّر بأَن يَمُدَّ الرجل يدَيْه فيملأَ كفيه ـ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: «أَعْطِنِي حَقِّي»، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: «اتَّقِ الله وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي»، قُلْتُ: «اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا فَخُذْهَا، فَقَالَ: «اتَّقِ الله وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي»، فَقُلْتُ: «إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا»، فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ». فَفَرَجَ الله مَا بَقِيَ، وَخَرَجُوا يَمْشُونَ).
وهنا سؤال يطل علينا برأسه قائلًا: إذا أردنا أن نفاضل بينهم في أكثر العمل قبولا، وبدوره هو أعظم منفعة، فمن منهم؟ وقد طرح ابن حجر هذا السؤال وأجاب عليه فقال: (من حيث المعنى فينظر أي الثلاثة كان أنفع لأصحابه والذي يظهر أنه الثالث لأنه هو الذي أمكنهم أن يخرجوا بدعائه، وإلا فالأول أفاد إخراجهم من الظلمة، والثاني أفاد الزيادة في ذلك، وإمكان التوسل إلى الخروج بأن يمر مثلًا هناك من يعالج لهم، والثالث هو الذي تهيأ لهم الخروج بسببه، فهو أنفعهم لهم فينبغي أن يكون عمل الثالث أكثر فضلًا من عمل الأخيرين، ويظهر ذلك من الأعمال الثلاثة فصاحب الأبوين فضيلته مقصورة على نفسه، لأنه أفاد أنه كان بارًّا بأبويه وصاحب الأجير نفعه متعد وأفاد بأنه كان عظيم الأمانة، وصاحب المرأة أفضلهم لأنه أفاد أنه كان في قلبه خشية ربه وقد شهد الله لمن كان كذلك بأن له الجنة، وقد أضاف هذا الرجل إلى ذلك ترك الذهب الذي أعطاه للمرأة فأضاف إلى النفع القاصر النفع المتعدي ولا سيما وقد قال إنها كانت بنت عمه فتكون فيه صلة رحم أيضا وقد تقدم أن ذلك كان في سنة قحط فتكون الحاجة إلى ذلك أحرى والله أعلم) (فتح الباري لابن حجر 6/‏ 511)، كما عدد فوائد هذه القصة في هذا الحديث الشريف صاحب (البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج 42/‏ 517) فقال: في فوائده: (بيان فضل الإخلاص في العمل، وفضل برّ الوالدين، وفضل خدمتهما، وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة، وغيرهم، وتحمّل المشقة لأجلهما، ومنها: بيان إجابة دعاء من برّ والديه، وقد عقد البخاريّ في «كتاب الأدب» من «صحيحه»، فقال: «باب إجابة دعاء من برّ والديه»، ثم أورد الحديث. ومنها: استحباب التوسّل بالأعمال الصالحة، قال النوويّ: استدلّ بهذا على أنَّه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وغيره بصالح عمله، ويتوسل به إلى الله؛ لأنَّ هؤلاء فعلوه، فاستجيب لهم، وذكره النبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في معرض الثناء عليهم، وجميل فضائلهم.
فاللهم شفع فينا الصيام والقيام، واجعلنا ممن استثمر صومه فغفرت له.