محمود عدلي الشريف:
أيها الصائمون .. لا نزال سويا نستفيد بأعلى درجة من صيامنا عبر سلسلة (استثمر صومك)، والتي أتشرف بصحبتكم خلالها لكي نستفيد كل يوم بثمرة من ثمرات الخير ونحن في خير شهر وشهر الخير.
فلا شك ـ إخواني الكرام ـ أننا جميعا في هذه الأيام المباركة في درجات تعبدية جليلة صيام وقيام، وذكر وشكر، وتسبيح وتهليل، نبادر بالكثرة ولا نرضى بالقليل، وقراءة قرأن وحديث وسيرة، لنستكمل طيلة الشهر هذه المسيرة، وتفكر وتدبر وإمعان، وعطاء وتصدق وصلة وإحسان، نستثمر وقتنا لمنفعة أنفسنا بالوقت الذي يضيع من بعض الناس فلا يستغلونه حق استغلاله، خاصة أننا نعلم أن هذه الأيام المباركة ربما تأتي مرة أخرى وقد وارانا الثرى ،فإن كل حي منذ أن يأذن الله تعالى له بالحياة ويصبح موجودًا في عوالم الأحياء بعد عدمه، فمنذ أن تبدأت أمه بحمله، كانت تلك البداية ومنها قد بدأ له العد التنازلي سواء طال العمر أم قصر، أي نعم! بدأت النهاية تتقارب من أول انطلاق البداية، والدليل على ذلك مرو الوقت، فالزمن الذي يقطع سيفه كل مخلوق.
وهنا لنا وقفة: ـ إخواني الكرام ـ هل نظرتم في الزمن نظرة متأمل متدبر مفكر؟ فهو الذي يمر رغم أنف كل حي ولا يستطيع مخلوق أن يوقفه، وهو في نفس الوقت لا يعود فلا يستطيع مخلوق أن يعيده، وهو أيضا سيمر بإذن الله لا يستطيع مخلوق أن يمنع مجيئه، إذن نحن ـ أيها الأحبةـ في عد تنازلي منذ نشأتنا، ولهذا يجب أن نعلم أننا في اختبار دائم ما دامت حياتنا الدنيا، وإذا غفل الإنسان عن هذا الاختبار وتكاسل عن الاستعداد له لاشك أنه سيرسب ـ والعياذ بالله، ولنا في هذه القصة أقوى عبرة لمن رسب في امتحان كان من السهل عليه أن ينجح فيه، وأترك لكم أحباب الكرام حرية الحكم على أصحاب هذه القصة، وهاكم هي:(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ ـ الابتلاء: الِاخْتِبَارـ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ ـ أَيْ اِشْمَأَزُّوا مِنْ رُؤْيَتِي ـ، قَالَ: فَمَسَحَهُ ـ أَيْ مَسَحَ عَلَى جِسْمه ـ فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ، - أَوْ قَالَ: البَقَرُ، هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ: إِنَّ الأَبْرَصَ، وَالأَقْرَعَ، قَالَ أَحَدُهُمَا الإِبِلُ، وَقَالَ الآخَرُ: البَقَرُ -، فَأُعْطِيَ ـ أَيْ الَّذِي تَمَنَّى الْإِبِل ـ نَاقَةً عُشَرَاءَ ـ النَّاقَة الْعُشَرَاء: الْحَامِل الْقَرِيبَة الْوِلَادَة، وَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا فِي حَمْلهَا عَشْرَةُ أَشْهُر مِنْ يَوْم طَرَقَهَا الْفَحْل، وَهِيَ مِنْ أَنْفَس الْمَال ـ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا وَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ ـ أَيْ مَسَحَ عَلَى عَيْنَيْهِ ـ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الغَنَمُ: فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا ـ أَيْ وَضَعَتْ وَلَدهَا هُوَ مَعَهَاـ، فَأُنْتِجَ هَذَانِ ـ أَيْ صَاحِب الْإِبِل وَالْبَقَرـ وَوَلَّدَ هَذَا ـ أَيْ صَاحِب الشَّاة ـ، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ ـ أَيْ فِي الصُّورَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَمَّا اِجْتَمَعَ بِهِ وَهُوَ أَبْرَص؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي إِقَامَة الْحُجَّة عَلَيْهِ ـ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ ـ أَتَوَصَّل بِهِ إِلَى مُرَادِي ـ فِي سَفَرِي، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ، ـ أَيْ وَرِثْته عَنْ آبَائِي الَّذِينَ وَرِثُوهُ مِنْ أَجْدَادِي الَّذِينَ وَرِثُوهُ مِنْ آبَائِهِمْ، كَبِيرًا عَنْ كَبِير فِي الْعِزّ وَالشَّرَف وَالثَّرْوَة ـ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ ـ أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ الْفِعْل الْمَاضِي لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَة فِي الدُّعَاء عَلَيْهِ ـ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ ـ بِالْحَاءِ، وَهِيَ الْأَسْبَاب ـ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ ـ أي لَا أَشُقّ عَلَيْك بِرَدِّ شَيْء تَأْخُذهُ أَوْ تَطْلُبهُ مِنْ مَالِي ـ، فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ) (صحيح البخاري 4/‏ 171)، صحيح مسلم (4/‏ 2276).
وقد أدركنا جميعا ـ أيها الإخوة ـ أن الابتلاء منعطف خطير، يفوز فيه من يفوز ويخسر فيه يخسر، فإذا ابتلى الله تعالى عبده بمرض فهو سبحانه قادر على ان يشفيه، مهما بلغ هذا المرض فهذا الحديث يقيد أن قدرةُ الله تعالى على شفاءِ الأمراضِ المستعصِية كالعَمَى والبَرَص والقَرَع وغيرها، وفيها أيضًا أن من أعطي المال ونحن الآن في شهر الصدقات فليراجع نفسه فليس كثْرةُ المالِ دَلِيلًا على حُبِّ الله للعَبْد، بل هي اختبارٌ وابتلاء كما حدَثَ مع هؤلاءِ الثلاثة، فانظر يامن أعطيت المال إلى فَضْل الصَّدَقَة والرِّفْق بِالضُّعَفَاءِ، وَإِكْرَامهمْ وَتَبْلِيغهمْ مَا يَطْلُبُونَ، وَالْحَذَر الحذر مِنْ كَسْر قُلُوبهمْ وَاحْتِقَارهمْ أو التقليل من شأنهم، فهذه القصة بمثابة التَّحْذِير مِنْ كُفْرَان النِّعَم وَالتَّرْغِيب فِي شُكْرهَا وَالِاعْتِرَاف بِهَا وَحَمْد الله عَلَيْهَا، فاللهم لك الحمد والشكر الدائمين المتلازمين إلى يوم أن نلقاك.. هل استثمرت صومك اليوم؟!.