د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. واستعمال الفعل الماضي:(جاء) كناية عن الحصول، والحدوث التام، وهو كناية عن الراحة التامة بحصول المراد، وتحقيق النصر، والفتح المبين، وكلٌّ من نصر الله، والفتح هو الفاعل هنا، أي: أنه صار النصر مُدرِكًا للمجيء، بصيرًا بسلامة الطريق، ويجيء وحده، هو، والفتح، وهو كناية مشخصة، تطمئن المؤمنين، والمَدُّ المتصل في الفعل:(جاء) يُشعِر بسرعة النصر، وتواصل حصوله، وهما (نصر الله والفتح) معرَّفان إما بالإضافة وإما بـ(أل)، أي: أنهما واضحان مميَّزان، ظاهران، والواو هنا لعطف المفردات، سواء أفادت ترتيبًا أم كانت لمطلق الجمع، فهي تعطف مفردا على مفرد، وأما الواو في:(ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) فهي لعطف الجمل، أو الواو الحالية، وأرشح أنها لعطف الجمل؛ لتمام المعنى معها، والفعل (رأى) يوحي بتحقق الأمر حتى إن العين لتراه بنفسها، أو كأنها تراه مستقبلًا يلوح أمام الناظرين، وجملة:(يدخلون) حالية في محل نصب، و(في دين الله) حال ثانية وهي شبه جملة، و(أفواجًا) حال ثالثة، وهي حال مفردة، وتتابعت الأحوال ما بين جملة وشبه جملة ومفردة؛ لتبرز طبيعة، وجلال، وكمال، وبهاء النصر، والفتح، فهو مرئيٌّ، وأنهم بالفعل داخلون، وأفواجًا مفوَّجين، و(يدخلون في دين الله) أي: متعمقين في الدين مُحِبِّين؛ لأن الحرف:(في) يفيد الظرفية، فكأن الناس دخلوا، وغابوا فيه؛ حُبًّا وودًا، والتزامًا، ونشرًا، ودفاعًا، واختلطوا فيه، وتعشقوه، وفهموه، وذابوا فيه، وغابوا حتى إنك لا تكاد تراهم بعد أن ظُرِفُوا في هذا الدين حبًّا، وودًا، وعملًا، ونشرًا، وذودًا، وكلُ ذلك كناياتٌ عن صدق الاعتقاد منهم، وكذلك هي بشريات عن مستقبل هذا الدين القويم، الدين الخاتم، والإضافة هنا (دين اللهِ) للتشريف، وبيان عظمة النصر، وجلال الفتح، وكمال دين الله، وأنه دين لله، ومرسل منه لا من اختراعات البشر، ويأتي جواب الشرط بالفاء التي تفيد السرعة:(فسبح بحمد ربك واستغفره)، وهي مؤهلات النصر، وعلَّمهم الله هنا كيف يكون الشكر على النعمة، وذلك بالتسبيح التام، والذكر المتواصل، والاستغفار والشكر والطاعة المستمرة، وبمزيد من الإخبات، والتسليم، وإرجاع كلِّ نعمة، ونصر، وتمكين لله رب العالمين (وما النصر إلا من عند الله)، والأمر في الفعلين:(فسبح، واستغفر) يأتي للنصح، والوعظ، والإرشاد، ومواصلة ذلك في كل وقت، ومكان يتم فيه، والألف والسين والتاء في:(واستغفره) لإفادة الطلب، وهو مد الأكف لله؛ لاستنزال رحمته، وهداه، ونصره، ورحماه، وعطائه، ونُعْماه، ثم تأتي العاقبة، والنتيجة الجليلة التي تُخْتَمُ بها الآيات:(إنّه كان توابًا)، فهو أسلوب توكيد يريح القلب، ويطمئن الفؤاد على توب الله على النبي، وعلى المؤمنين معه، وأن ذلك حاصل، وقد انتُهِيَ منه، ويؤكد ذلك مجيء الفعل (كان) ماضيًا.
فالفعل الماضي كناية عن سعة الرحمة، وحصولها من زمن، وتوكيد ذلك بإنَّ، واستعمال صيغة المبالغة، أو الصفة المشبهة:(توابًا) أيْ: كثير التوب على عباده، وكثير الرحمة، والمغفرة، وأن ـ جلَّ جلاله ـ يتوب، ويتوب، ويتوب، ويتوب، ومهما بلغ العبد من الذنوب فإن الله يغفر ويسامح، ويتوب، فالله يتفضل عليه، بالتوبة، بل يبدل سيئاتِهِ حسناتٍ، ولا حرج على فضل الله، وسعة رحمته، فـ(توَّابا) جمعت بين أمرين، بين كونها صيغة مبالغة أو صفة مشبهة، وبين مجيئها على التنكير الذي يفيد الشمول، والعموم، وهو الذي يتناسب مع جلال الله، وكماله، وقيوميته، وعظمته، ورحمته التي تسع الأكوان كلَّها، وقد تبين من خلال السورة أنها سورة المبشرات، وسورة التحقيق، والتأكيد، وكل ما فيها يدفع باتجاه التأكيد، نحو: (إذا، جاء، نصر الله، رأيت، الناس أيْ: جميعا، يدخلون، في دين الله، أفواجًا، فسبح، واستغفر، إنَّ، كان، توابًا) فكل الكلمات في السورة ـ بعد تحليلها ـ ظهر من خلاله جلال نورها، وكمال دلالتها، وهي في الوقت نفسه تبرز مكانة، ومقام النبوة، ومنزلة الرسول عند ربه، فكلُّ الضمائر في سورتي الفتح، والنصر جاءت بضمير المخاطب؛ بيانًا لمقامه، وإظهارًا لحقه، وحتى يعلمَ هؤلاء، وهؤلاء مدى صلته بربه، واتصاله بمولاه، ومكانته عند خالقه، ومدى تأييد السماء للرسول الكريم، وصحبه، وكلِّ مَنْ معه من المؤمنين، على مر العصور، وتعاقب الأزمنة، وتتالي الدهور.