تتراءى أمام أعيننا على مدار الساعة، أشياء لو تأملنا تفاصيلها ـ ولو لوقت قصير ـ ولم نتغافلها؛ لعلمنا مدى الجرم الذي نقترفه في حق أنفسنا وحق الآخرين، الذين ربما يكونون أقرب الناس إلينا، إن لم يكونوا كذلك بالفعل. إذا لم نوجه بوصلتها لوجهتها الصحيحة التي تتسم ببعد النظر.
فكل مكونات حياتنا حولنا تذكرنا بالقراءة التي تعتمد على الكلمة وحروفها التي تبنيها، فالكلمة التي تمثل أمامنا كل الوقت ـ في الجرائد والمجلات التي تتناثر أمامنا، أو تلك التي تزين اللافتات التي تتكدس على جدران الأبنية من حولنا، أو حتى التي تتربع في إرشادات التسوق التي تكتظ بها مراكزنا التجارية ـ تسهم بلا شك في إيصال رسالة ما يريدها ويؤكد عليها صاحبها، أو من يقف وراءها، ونحن بدورنا نتمعن فيها حسب احتياجنا إليها، وفي الغالب الأعم نقف أمامها مشدوهين، إذا كانت تربطنا بمنفعة آنية، في الوقت الذي نزهد فيه سواها على غير هدي منا، حين تغطي الكلمة مساحات البياض في كتب تتناول ألوانا شتى من معارف نحتاجها في حاضرنا ومستقبلنا مع أنها تختزل كل المنافع لنا، وهي ما تخصنا ونركز عليها ونناقش أحوالها ومآلاتها في هذه الزاوية. وقد دعاني إلى مناقشتها، ما يعلمه الكثير منا من إحصاءات وتقارير عن معدلات قراءة في عالمنا العربي، أقل ما توصف به أنها (مخجلة)، وقد احتار عدد غير قليل من الباحثين في الوقوف على أسبابها كاملة، وأعياهم البحث في وضع حلول ناجعة لمعالجة هذا العزوف، وإن توافرت هذه الحلول، فإنهم يعدمون الطرق لتطبيقها.
فالقراءة ـ لمن لم يسبر أغوارها ويتماهى مع تجلياتها ـ هي بحق غذاء الروح، تسمو معها أرواحنا حين نتوحد مع ما نقرأ، فنشعر بأننا في عوالم مغايرة تماما، نتمنى أن نعيش فيها أبدا. وهي حالة الثقة التي نعيشها، بعدما يترسخ في ذواتنا ما جهلناه قبل أن تطأ أعيننا وعقولنا سطورها؛ فنتهيأ لمجابهة أي تفاصيل تتمحور حولها نقاشاتنا مع الآخرين. وهي مفتاح التواصل مع الآخر، وبها نتعرف عليه عن قرب، وننهل من مفردات حضارته، ونعرفه علينا وعلى مكتسباتنا الثقافية والتاريخية والحضارية التي ترسخت لدينا على مر الأزمان. وهي الزاد الذي ينير عقولنا ويعدنا أفرادا نافعين في المجتمع، بما يتحصل لدينا من علوم ومعارف. وهي ـ في المبتدأ والمنتهى ـ قد تفجرت ينابيعها من كلمة (اقرأ) التي نعتبرها جميعا رمزا ومنطلقا لحضارتنا العربية والإسلامية.
هذه هي القراءة، سبيل سعادتنا، ومفتاح تواصلنا مع العالم، ووسيلة علم يرفع بيوتا لا عماد لها، فلماذا نتهاون في حقها ونعرض عنها، فلا نجعلها من أولويات حياتنا؟!
البعض منا سيتحجج بأن وسائل التطور التكنولوجي وكل ما ساهم في ثورة الاتصالات هو ما شدنا بعيدا عن القراءة، حين وجد طرقا سهلة للمعرفة، وأنا أؤكد أنه ـ بقليل من التمعن ـ لابد وأن نتأكد أن هذه الأشياء التي نتحجج بها سببا لعزوفنا عن القراءة، من الممكن أن نستغلها لتقربنا إليها، لا أن تقصينا عنها، فالكتاب الإلكتروني على سبيل المثال، من الممكن أن يكون بديلا سهلا وغير مكلف عن الكتاب الورقي، فيفي بالغرض، طالما أن المعرفة هي سبيلنا للبحث عن كتاب نقرأه، ومن المؤكد أن البعض منا يرى أنه وسيلة فيها قدر من الإمتاع، إذا كان يبحث عن المتعة، بعيدا عن التشنج لصالح الكتاب الورقي، وإن رأى البعض أنه لا جدال في ذلك، فلن يحل الكتاب الإلكتروني محل الورقي لأسباب كثيرة، لكنها ليست مجال وقفة لدينا الآن، المهم أن نبحث عن وسيلة تقربنا من المعرفة، أيا كانت.
وحين نمعن النظر أكثر في الأسباب التي أدت إلى عزوف جماهيرنا العربية الغفيرة عن القراءة، وعلى من تقع المسئولية فيه، نرى أننا جميعا شركاء فيه، فالبداية لابد وأن تأتي من الأسرة، من الوالدين، اللذين يقع عليهما عبء تثقيف أبنائهما في سني عمرهم الأولى، فهما مطالبان بتفعيل دورهما في هذا الجانب، فمكتبة صغيرة في أحد أركان البيت، نضع فيها بعض العناوين التي تناسب عمر الأبناء، كفيلة بأن تقربهم من القراءة، وتعزز لديهم حبها. ومن البديهي أن بعض الآباء والأمهات يساهمون بشكل أو آخر ـ حتى لو بدون قصد ـ في تقريب الأبناء إلى الكتاب، فمجرد أن يحمل الأب أو الأم كتابا ويفتحه ليقرأ فيه، نجد أحد الابناء ـ إن لم يكن جميعهم ـ حاول تقليد الأب، ففتح الكتاب ليرى ما به، ومع ذلك لابد وأن نؤكد على ضرورة القصدية في تقريب الأبناء من القراءة، ومعروف أن الطفل الذي ينشأ على حب القراءة، يكتسب من الصفات المحمودة ما تؤهله ليكون فردا ناجحا على كل المستويات الشخصية والمهنية، فلِمَ لا نكون سببا واضحا ورئيسا في ذلك.
ومن بعد المسئولية الأسرية تأتي مسئولية المجتمع بكل أطيافه، لعلاج هذه المشكلة، ولو أن مؤسسات المجتمع قامت بدورها في هذا الجانب لحلت المشكلة بكاملها، المهم أن نبدأ في علاج المشكلة، ولنقترب أكثر من المسئولية الملقاة على عاتق هذه المؤسسات، فليس من الصعب أن نوفر مكتبات ولو بسيطة تكون قريبة منا في الأحياء، فنوفر فيها العناوين التي نحتاجها، وتكون لمساهمات الأفراد نصيب في ثراء عناوينها، وأظن أن منا من سيدخل إلى هذه المكتبات ولو من قبيل الفضول، وبعدها سوف تروق له فكرة الاطلاع على ما بها من كتب.
كما أن على وسائل الإعلام دورا في المساهمة بحل مشكلة عزوف الناس عن القراءة، بتخصيص برامج تناقش من خلالها موضوعات وعناوين الكتب، بشرط أن تغطي كل المساحات الزمنية، حتى نضمن أن تصل إلى كل الفئات في كل الأوقات التي يروق لهم فيها متابعتها، هذا عدا دور الجرائد بملاحقها الثقافية المتخصصة في تقديم قراءات نقدية وعروض للكتب على صفحاتها، ومن المؤكد أن هذه الوسيلة ستقرب القارئ أكثر من الكتاب ومن ثم التعرف عليه ومطالعته في وقت ما.
وللمنتديات والملتقيات والمبادرات القرائية دور كبير، في إذكاء الشعور الجمعي بالميل إلى القراءة والتشجيع عليها، وعلى القائمين على هذه المنتديات والمبادرات الاستمرار في نهجهم وتكثيف تقديم الندوات والمحاضرات التي تناقش عناوين الكتب، وتسهم بشكل أو آخر في تثقيف أفراد المجتمع.
ومن بين الحلول التي يراها البعض ناجعة في معالجة عزوف الناس عن القراءة، إنشاء جمعيات متخصصة في القراءة ـ على غرار جمعيات الكتاب ـ فتساهم بشكل أو بآخر في نشر الوعي القرائي، وتنظيم البرامج والمحاضرات والندوات، وتضم هذه الجمعيات في عضويتها أطياف المجتمع كافة، ويؤطر هذه الجمعيات (اتحاد القرَّاء)، على غرار (اتحاد الكتاب) ينظم آلية العمل والبرامج التي تتكفل هذه جمعيات القراءة بإقامتها، وقد نادى عدد من الكتاب بإنشاء هذا الاتحاد في غير موضع، وخلال أزمنة متفاوتة، وقد حدد هؤلاء الكتاب فكرة إقامة هذا الاتحاد وكيفية الانتساب إليه، والمهام المنوطة بهذا الاتحاد، الذي ستستظل به جمعيات القراءة.
وإنني أجدد عبر (بساط .. ) حلم إنشاء (اتحاد القرَّاء) وطبيعي أن يكون عربيا، فهل ستروق لنا فكرة إنشاء (اتحاد القرَّاء العرب) فنراه قريبا.

إيهاب مباشر