د. جمال عبد العزيز أحمد:
في مثل هذا اليوم من رمضان في كل عام، يهلُّ علينا أكبر حدث في تاريخ أيام المسلمين، أي حروبهم، وغزواتهم، وهذا اليوم، وهو يوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة حدثت موقعة بدر الكبرى التي سمَّاها القرآن الكريم يوم الفرقان، وكلمة:(يوم) في قاموس العرب تعني الحرب، وأيام العرب أي حروبها، قال تعالى:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الفرقان ـ 41).
ونتناول بالقراءة البلاغية والتربوية بعضًا من تلك الآيات التي سجَّلت غزوة بدر، يوم الفرقان، يقول الله تعالى في سورة الفرقان تلك التي وثَّقَتِ الغزوة المباركة مِنْ ألفها إلى يائها، وأعطتنا صورة كاملة لها، كأننا نراها رأي العين، ونعايشها لحظة بلحظة:(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال 9 ـ 10)، في تلك الآية نجد الفعل:(تستغيثون) قد زيدت فيه الألف والتاء والسين، التي تفيد الطلب، وأنه متحقق لا محالة حيث لا يستغني مؤمن عن ربه، وهو أمر مستمر متواصل كما عبر عنه الفعل المضارع، وهم في مجموعهم لا يستغني أحد عن عون ربه ـ جلّ جلاله.
فالمؤمن يعرف مَنْ يتوجه إليه بالطلب، وهو الله ربُّ كل شيء، فهي تبيِّن حسن التوجه، وسلامة القصد، وجلال الاعتقاد، وإدراكُ المؤمن في كلِّ وقت أن الله وحده هو المستغاث به، وهو المستعان بجلاله، والمستنَدُ إلى قدرته أمر غاية في الأهمية والإيمان، وكلمة: (ربكم) أتت في محلها غاية في الجلال، وقمة في الرحمة، والكمال؛ فهو الرب الذي نتوجه إليه جميعا صادقين، فلا يتركنا، والذي نلجأ إليها فيعطينا، ونستغيث به فيغيثنا، وهي كناية عن سعة الرحمة، وكمال المودة، وحسن التوجه من العبد، وكمال العطاء من الرب، وأنه ربُّنا جميعا، كما أن الضمير (كم) هو ضمير الحنو كله، والرحمة كلها، أي لم يحرم أحدا منكم من عونه، وغوثه، وتأييده، وتأتي الفاء العاطفة السريعة في:(فاستجاب لكم) لتفيد سرعة إجابة الله لإغاثة هؤلاء، وتلبية المراد، وإنزال الغوث عاجلا، وهناك تفصيل بعد الإجمال يريح القلب، ويُقِر الفؤاد، وهو:(فاستجاب لكم: أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين)، وهو كذلك كناية عن سعة العطاء، وجلال التأييد، فهم مردفين أي متقدمين عليكم، يحمونكم من ضربات المشركين، ويوسعون الطريق قتلا وأسرا وطعنا في هؤلاء، وقوله: ممدكم (بكاف الجمع) تفيد عظمة المد، وجلال المنح، فهو من الله، وأنه نزل وأتى للجميع، فهو كناية عن كمال المعونة، وسعة العطاء، وشمول العون والإغاثة، والمد، وكلمة (ألف) هنا كناية عن سعة العطاء فإن مَلَكًا واحدًا يمكنه تدمير الكون بإذن الله، وجعْل أعالي القرى جميعًا أسافلها، وقد يكون (الألف) هنا كعدد ليس مقصودا لذاته؛ لأن العرب تعبِّر عن منتهى العدد، وآخره باستعمال كلمة (ألف)، كما في نحو:(يود أحدهم لو يعمّر ألف سنة..)، وكما نحو:(ليلة القدر خير من ألف شهر)، وكما هنا في الآية الكريمة، وقوله:(من الملائكة) تفيد بيان النوع، فهم ملائكة موكَّلون بالحرب والتدمير، وهم دمار، وإفناء على من يُوكَلُون بحربه، فألف يُعَدُّ من الملائكة عددًا كبيرًا، و(أل) في الملائكة إما عهدية، أي: المعهود نزولهم عند الحرب، والتثبيت، وإما جنسية، أي أجناس وأنواع كثيرة، و(من) قد تكون كلك للتبعيض، أو أن تكون بيانية ـ كما مَرَّ ـ وكلُّه يدل على رحمة الله بأهل الإيمان، وأنه لا يتركهم للشيطان، وأعداء الله من الوثنيين، عبَّاد الأصنام، الكفرة، الفجرة، واسم الفاعل (مردفين) يعني: أنهم متتابعون: قوة وراء قوة، وهم أصحاب بأس، وجلد، وهم خير عون، وسند، وهنا أمر مُهِمٌّ، وهو أن هناك فارقا بين الرادف، والمردِف، فالرادف هو الشخص المتأخر، والمردف هو الشخص المتقدِّم، فالملائكة تتقدَّم المؤمنين، ولا تتأخر عنهم، فاللفظة هي اسم فاعل من الرباعي (أردف)، وليس الثلاثي (ردف)، كما في الحديث:(كنت رَدِيفَ النبي ..) أيْ: أركب خلفه، وقد يكونان (أي: أردف وردف) بمعنى واحد، يتقدَّمون مرة لحمايتهم، ويتأخرون أخرى لحراستهم، فاسم الفاعل هنا: مردفين يعني أن يتبع بعضُهم بعضا، فالأول يتبع الثاني، حتى ينزل آخر ملَك منهم، أو أنهم متتابعون، ينزلون فوجًا بعد فوج للتثبيت، والقتال، والمُردف هو المتقدم الذي أردف غيرَه خلفه، والردف: التابع، والترادف: التتابع.