محمود عدلي الشريف:
أيها القارئ الكريم.. إن الغيب لله تعالى لا يعلمه إلا هو، ولا يمكن أحد من الاطلاع عليه إلا من ارتضى من رسول، ولهذا فالإنسان منا لا يعلم ما الذي سيحدث له بعد برهة قليلة من الأوقات الآتية، حقا لا يعلم ما الذي سيحدث له على حدود ذاته ونفسه، ولا من أحاط به ممن يعلم وممن لا يعلم، ولا ما حوله من العالم، وقد يتمنى الإنسان أشياء ويرجو أن تتحقق له بل وتكون غاية ما يتمنى ، ثم بعد أن تتحقق يكتشف أنها لا تصلح له وأنه كان على خطأ كبير، وعلى العكس أيضا فقد يتمنى أن تبتعد عنه أشياء ولا يريدها ويكرهها، ثم هي إذا أصابته ويجد ما فيها من خير حينها يكتشف أنه كان على خطأ كبير، وإليكم قصة غريبة تكون لنا دليلًا عمليا أن الظواهر قد تخدعنا، وأن ما كتبه الله تعالى لكل إنسان قد لا يصلح لشخص آخر.
وإليكم مضمون القصة ثم نعلق عليها معًا:(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:...، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ ـ أَيْ: صَاحِب حُسْن، وَقِيلَ: صَاحِب هَيْئَة وَمَنْظَر وَمَلْبَس حَسَن يُتَعَجَّب مِنْهُ وَيُشَار إِلَيْهِ ـ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ، ـ قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ ـ ثُمَّ مُرَّ ـ بِضَمِّ الْمِيم عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ ـ بِأَمَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ ـ العاتي المتكبر القاهر للناس ـ مِنَ الجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الأَمَةُ يَقُولُونَ: سَرَقْتِ، زَنَيْتِ، وَلَمْ تَفْعَلْ) (صحيح البخاري 4/‏ 165برقم: 3436)، وفي رواية أخرى للبخاري:(.. فَقَالَتْ: «اللَّهُمَّ لَا تُمِتْ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا»، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ»، ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْيِ، وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا، فَقَالَتْ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا»، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: «فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا». فَقَالَ: «أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا تَزْنِي، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ، وَيَقُولُونَ: تَسْرِقُ، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ) (برقم: 3466).
ولو تأملنا ـ أخي القارئ الكريم ـ ما تمنته الأم وتدبرنا ما قال الطفل الرضيع لتبين لنا أن ما كتبه الله للإنسان هو الأصلح له و(أَنَّ نُفُوس أَهْل الدُّنْيَا تَقِف مَعَ الْخَيَال الظَّاهِر فَتَخَاف سُوء الْحَال، بِخِلَافِ أَهْل الإيمانِ الصادِقِ فَوُقُوفهمْ مَعَ الْحَقِيقَة الْبَاطِنَة فَلَا يُبَالُونَ بِذَلِكَ مَعَ حُسْن السَّرِيرَة، وأَنَّ الْبَشَر طُبِعُوا عَلَى إِيثَار الْأَوْلَاد عَلَى الْأَنْفُس بِالْخَيْرِ لِطَلَبِ الْمَرْأَة الْخَيْر لِابْنِهَا وَدَفْع الشَّرّ عَنْهُ) (دروس وعبر من صحيح القصص النبوي، ص: 21).
وهنا تستوقفنا نقطتان هامتان: أولهما: أن الإنسان بخافيه عند ربه وليس بظاهره بين الناس: ولن أشرح لكم الكثير في هذه النقطة فالقصة التالية أبلغ من سأقول، ذكرها الطبري الرازي اللالكائي في كتاب (شرح أصول اعتقاد 7/‏ 1332):(عن ابْنَ أَبِي الطَّيِّبِ يَقُولُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ الصَّايِغُ، وَأَشَارَ إِلَى (ص:1333) أُسْطُوَانَةِ الْجَامِعِ يَعْنِي بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ، يَقُولُ: عِنْدَ تِلْكَ الْأُسْطُوَانَةِ، قَالَ: « إِنَّهُ كَانَ فِي جِيرَانِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَجُلٌ، وَكَانَ مِمَّنْ يُمَارِسُ الْمَعَاصِيَ وَالْقَاذُورَاتِ، فَجَاءَ يَوْمًا مَجْلِسَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَدًّا تَامًّا، وَانْقَبَضَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لِمَ تَنْقَبِضُ مِنِّي؟ إِنِّي قَدِ انْتَقَلْتُ عَمَّا كُنْتَ تَعْهَدُهُ مِنِّي بِرُؤْيَا رَأَيْتُهَا. قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ رَأَيْتَ تَقَدَّمَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ عَلَى عُلُوٍّ مِنَ الْأَرْضِ، وَنَاسٌ كَثِيرٌ أَسْفَلَ جُلُوسٌ، قَالَ: فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: ادْعُ لَنَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنَ الْقَوْمِ غَيْرِي، قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُومَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ قُبْحِ مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا فُلَانُ، لِمَ لَا تَقُومُ وَتَسْأَلُنِي أَدْعُو لَكَ؟ فَكَأَنِّي قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَقْطَعُنِي الْحَيَاءُ مِنْ قُبْحِ مَا أَنَا عَلَيْهِ، قَالَ: إِنْ كَانَ يَقْطَعُكَ الْحَيَاءُ فَقُمْ فَسَلْنِي أَدْعُو لَكَ، إِنَّكَ لَا تَسُبُّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، قَالَ: فَقُمْتُ فَدَعَا لِي، قَالَ: فَانْتَبَهْتُ، وَقَدْ بَغَّضَ اللَّهُ إِلَيَّ مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقَالَ لَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَا جَعْفَرُ، يَا فُلَانُ، يَا فُلَانُ حَدِّثُوا بِهَذَا، وَاحْفَظُوا فَإِنَّهُ يَنْفَعُ).
انظروا كيف كان هذا الرجل وإلى أين صار، وثانيهما: كلام الطفل رغم أنه في المهد وليس هذا بعجيب فقد حدث هذا لسيدنا عيسى (عليه السلام)، وفي (دلائل النبوة للبيهقي محققًا 2/‏ 389) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ): (لَمَّا أُسْرِيَ بِي ..، قَالَ: وَتَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: هَذَا، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى بن مَرْيَمَ) (أخرجه الهيثمي في الزوائد 1: 65)، و(في الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)، فذكر عيسى وصاحب جريج وابن الماشطة، و(في حديث مسلم عن صهيب ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قصة أصحاب الأخدود: أن امرأة جيء بها لتلقى في النار أو لتكفر ومعها صبيّ يرضع فتقاعست فقال: يا أماه اصبري فإنك على الحقّ. وفي رواية عند ابن قتيبة: إنه كان ابن سبعة أشهر. وروى الثعلبي عن الضحاك أن يحيى بن زكريا تكلم في المهد).
والخلاصة: أن من طلاقة القدرة الإلهية أن يتكلم أطفال في المهد على رأسهم سيدنا عيسى (عليه السلام)، وأن الإنسان لا يتمنى إلا ما كتبه الله تعالى له.