د. جمال عبد العزيز أحمد:
والرادف: المتأخر، والمُردف ـ كما سبق ـ المتقدم الذي أردف غيره وراءه، كما في قوله تعالى:)فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مُرْدِفِينَ)، قال أبو عبيدة:(مردفين: جائين بعدُ) (مجاز القرآن 1/241)، فجعل الفعلين: (ردف، وأردف) بمعنى واحد، فـ(مردفين) كناية عن الجرأة والشجاعة، والهيمنة على مجريات ميدان المعركة تقدُّما وتأخُّرا، أماما وخلْفا، في سرعة تسبق سرعات الصوت، أو فوق الصوت.
وفي قوله تعالى:(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ ٱللَّهَ رَمَى) (الأنفال ـ 17)، يبيِّن الله تعالى لنبيه أن أصل الحرب رهنٌ بيديْه ـ جلَّ جلاله ـ وأن الرمي من المؤمنين ليس بأيديهم، وإنما هم سببٌ، ووسيلة، وإنما الذي يرمي على الحقيقة هو الله ـ جلَّ جلاله ـ وهو كناية عن قوة الرمي، وتدميره الشامل الكامل الجامع المانع، فالجملة الفعلية:(وما رميت) جملة منفية، تنفي أن الرامي على الحقيقة والتدقيق هو الرسول الكريم، وصحبه، ويأتي حرف الاستدراك:(ولكن) ليستدرك هذا المعنى الحقيقي، ويبيِّن الدلالة الدقيقة، وقد ورد هي بالجملة الاسمية المؤكدة بحرف الاستدراك (لكنَّ)، وهو من أخوات إن، والجملة الاسمية ـ كما هو مقرَّر عند النحاة ـ تفيد الاستمرار، والدوام، وأزلية الحكم، ففيه من جانبٍ آخر كناية عن استمرار الرمي حتى تحقيق النصر في كل غزوة، والرمي تكون قوته على قدر الرامي، فإذا كان الرامي هو الله ربُّ العالمين، صاحب كل قوة، ورب كل قدرة، فلا يتصور عقلٌ كيف تكون قوة الرمي، وكيف يكون أثره، وكيف تكون عواقبه:(فَدَمدَمَ عَليهُم ربُّهم بِذنبِهِم فَسوّاها، ولا يَخافُ عُقبَاها)، وإذا كانت الملائكة ـ وهو المأمورون من الله يجعلون أعالي القرى أسافلها، ويفنون كل شيء يدمرونه ـ فما بالكم بقدرة القادر، القدير المقدر؟!، فهو نفي، وإثباتٌ، والفاعل رب الكون، فهل هناك تطمينٌ أكثرُ من ذلك؟!، وهل هناك استقرارُ قلبٍ، وهدوءُ نفس أشملُ من ذلك؟!. و(إذ) ظرف لما مضى من الزمان، أي وما رميت أنت نفسك يا رسول الله، حيثُ رمت يداك الشريفتان، وحيث صَوَّبَتِ السهام كفاك الكريمتان، ولكنَّ الله أخذ عنك عناءَ الرمي، ودقة التسديد، فـ(رمى)، وهو خالق السهم، وخالق الرمية، وخالق الهواء الموجِّه للقوة النارية، وخالق الزمان والمكان الذي تجري فيه المعركة، وهو المهيمن على كل شيء، في كل الأكوان.
وقد حُذِفَ مفعولُ الفعل (رمى) لتذهب النفس فيه، وفي تصوره كلَّ مذهب، ويكون الرمي بدلالاته الشاسعة الواسعة، الجامعة المانعة ، فلا يتصوَّر قوةَ الرمي، والمَرْميِّ به بشرٌ، مهما كانت طبيعة تصوُّره، فالكنايات هنا تتتالى، والصور الكلية ترتسم واضحة؛ لتُرِيَنَا قوةَ البأس، وحجمَ التدمير، وعظمةَ الاقتدار في الرمي، وأنه منتهى الرمي، وغايته، وكماله، وجلال تسديده، وكانت النتيجة أنْ حصل النصر المبين، مع أن عَدد المسلمين وعُددهم لا يصل إلى ثلث عَدد الكفار، وعُدد المشركين، ولكنَّ الناموس الإلهي يعمل دائمًا:(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين)، و(ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)، ودائمًا لا يتخلف الناموس، وإنما يعمل قانون السماء.
ويقول الله تعالى:(.. وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ) (الأنفال ـ 41)، هنا أنزل الله ملائكته على عبده، ورسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) وتجد الحديث عن الرسول هنا قد جاء بأكرم وصف، وأخص خصيصة، وهي العبودية التي تستنزل النصرة، والعون، والتأييد، فهو كناية عن موصوف، هو الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، واستعمال نون العظمة:(أنزلنا) توحي بضخامة ما أنزله الله، وخطورته من جانب، ومن جانب آخر إنزاله دفعة واحدة، للتطمين والتأييد، واستقرار النفس، والقلب، ولم يقل:(تَنَزَّلْنا به)، وإنما قال:(أنزلنا)، فالنزول دفعة واحدة، ومن الله العظيم القادر الجبار المنتقم والحرف:(على) يفيد الاستعلاء، ويعني أن النازل قد غطَّى المنزَّلَ عليه، وفاض عن حاجته، فكفى، وأكفى، والتعبير بـ(يوم الفرقان) هو كناية عن موصوف (هو يوم بدر)، ويعني أن الله سبحانه قد فَرَّقَ بها بين الحقِّ، والباطل؛ فأعلى فيها كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه، ونصر نبيَّه، وحزبه المؤمنين، وعرف أهلُ الباطل حجمَهم الصغير، ووزنهم الحقير، ورأى أهلُ الحق مكانتهم عند ربهم، ومقامهم عند مولاهم، وما نزل هنا في ضخامته يستحقُّ التنويه به، ويستأهل الحديث عنه، حيث أنزل الله ألفَ ملك، بقدرة كلِّ ملك.