د. جمال عبد العزيز أحمد:
..وحيث رمى الله بذاته العلية الرمْيَ كلَّه، وحيثُ كانت المساندة على أشُدِّها، وإلا فقل لي بربك: ثلاثمائة فرد فقط، ومعهم من الأفراس والخيول القليل، وعُدَّتهم فقيرة، وما معهم من الآلات والمعدات لا يكاد يُقِيم سرية، ناهيك عن متطلبات غزوة، فكيف ينتصرون، ويملكون كلَّ جنبات الميدان، ويصولون، ويجولون، والنصر التام يحقِّقون، والموت الزُّؤام لأعداء الله يقدِّمون، ويحرزون، ويحصدونهم حصدًا، ويرمون في القليب صناديدَ الكفر من أشاوس المحاربين من المشركين، وأهل الكر، والفر فيهم، الذين دوَّخوا مكة ، وما حولها في حروبهم، وأيامهم الطويلة، فهاهم هؤلاء يملؤون ميدان المعركة من قتلاهم، وأسراهم، والقليب يشهد على امتلائه من جُثَثِ أولئك المشركين الذين وقف الرسولُ على شفير القليب الذي رُمُوا فيه.
وقال مكلمًا إياهم في الحديث الذي رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه:(لمَّا سمِع المسلمونَ النبيَّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلم ـ وهو ينادي على قَليبِ بدرٍ: يا أبا جهلٍ، يا عُتبةَ بنَ ربيعةَ، يا شيبةَ بنَ ربيعةَ، يا أميةَ بنَ خلفٍ، هل وجدتُم ما وعدَكم ربُّكم حقًّا؟، فإني وجدتُ ما وعدني ربِّي حقًّا. قالوا: يا رسولَ اللهِ، أتنادي قومًا قد جيَّفوا؟ . قال: ما أنتم بأسمعَ لِمَا أقولُ منهم، ولكنَّهم لا يستطيعونَ أنْ يجيبوا». الله أكبر، الله أكبر!، نصر، وثبات، وامتلاك لكل جوانب المعركة، حتى إنهم يدفنون قتلى المشركين، وهنالك وقت يقفون فيه بهدوء متعجبين، ويتساءلون، ويرد عليهم الرسول الكريم، لقد انتهت المعركة، وانتهى هؤلاء المجرمون إلى يوم القيامة، واستراحت منهم الأرضُ كلها، وجَيَّفوا أي أنتنوا، وبدأ روائح أجسادِهم تفوح، وتعجَّب الصحابة: كيف تكلِّم قومًا أنتنوا، يا رسول الله؟، وهي كناية عن مضاء وقتٍ على موتهم، وهلاكهم، فيردُّ ـ صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، أي: هم أشدُّ سماعًا، وانتباهًا وتعقلا، وفهمًا لما أقوله منكم، هم أكثر سماعا، ويرونني ويعلمون كلامي ويفهمونه أكثر منكم، وهم مذلولون تحت الأرض، يتراكم بعضُهم فوق بعض، لا وزن لهم، ولا قيمة؛ لأن الله قتلهم، والله رماهم، وأماتهم، وجعلهم عبرة لكل معتبر، وقد تنفَّس الكونُ الصعداءَ، وحمد اللهَ على هلاك هؤلاء الطغمة الحُقَرَاء، وقد رأوا ما وعد ربهم من النار، وجهنم الحمراء في انتظارهم تلتهمهم، وتكسِّر عظامهم، وتذيب أجسادَهم، إنها حقًّا غزوة عجيبة، وإنه لَنَصْرٌ أعجبُ، فبكلِّ المقاييس العسكرية، والحربية، والنفسية، والفكرية من المفترض أن يُبَادَ المسلمون جميعًا، لأنهم كانوا أقل عَددا وعُددا، وأقلُّ إمكانيات، وآلات، وخيول، وعَتاد، ولكنِّ الله إذا كان معك، فلا تَخْشَ شيئا، فالله قادر على كل شيء، وبالإيمان تدمَّر الأكوان، وبقوة علاقتك بالله تصنَع المستحيل، وتفعل الأفاعيل، ولا يستقرُّ في أرض الميدان إلا أهل الإيمان، ويكون لهم الصَّوَلَان، والجولان، وامتلاك الميدان، وهم الفرسان، ويعمل الذِّكر لله، والشكر المتواصل منهم ، والتقوى الحاصلة لله ـ جلَّ جلاله ـ منهم عملها، ويُؤتِي قيامُ الليل، وحسن الصلة بالملك الديان ما يتعجب له كل إنسان، فلا يستوي متصل بالله، ومنقطع عنه، ولا يساوي الله بين قوم عبدوه، وآخرين كفروا به، وعاندوه.
ولذلك قال الله تعالى مبشّرًا رسوله الكريم، ومبيِّنًا له أن نهاية المعركة له، وأن أهل الفسوق الكفر، والعصيان، والشرك سيُهزَمون، وعلى أعقابهم يَبُولون، وهم ـ لا شك ـ سيفِرُّون، قال الله عز وجل:(سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُر) (القمر ـ 45)، والسين في (سيُهزم) للمستقبل القريب، ولم يقل:(سوف يهزم) التي هي للمستقبل البعيد، واستعمال المضارع مؤذِنٌ باستمرار هزيمة الكافرين، وجَمْعِهِمْ، والمضارع (يولُّون) يفيد الاستمرار كذلك، وكونهم قد جُمِعُوا في ضمير واحد هو (واو الجماعة) يعني أن الفرار، والهروب سيكون منهم جميعًا، لا يُبْقِى الكَرُّ والفَرُّ عليهم على واحد في ميدان المعركة، فلا ترى وجوهَهم، بل ترى أعقابهم، وأدبارهم فقط، وشكلهم مُخْزٍ، وهم يهربون من حصد السيوف لأجسادهم، وتطاير أعضائهم، وتَعَالِي صيحاتهم في أثناء موتهم، وهم يفرُّون مهزومين هاربين أمام جلال الإيمان يَحْكُون لمن وراءهم بأسَ المؤمنين، وعدم خوفهم من الموت؛ لأنه لهم شهادة، وجنة، وللكافرين نهاية، وخزي، وعار، وشنار، وذهاب إلى جهنم، وبئس المصير، وقد كان ما وعد الله به رسوله والمؤمنين، فقد هُزِمَ الكفارُ جميعًا، وراح جمعُهم أدراج الرياح، وَوَلَّوُا الأدبارَ، وانتهت حياتُهم، وحُشِروا إلى جهنم، حيث سوء المصير، والتعبير بالسين هنا يأتي كناية عن كمال البشرى، وتعجيل النصر، وهو كناية عن صفة، هي الهزيمة المحققة، والتلبية السريعة لأوليائه، وأحبائه، ويشي بتمريغ جبين الكفر، ورأسه في الرغام.