محمود عدلي الشريف:
عباد الله .. إن المؤمن يجب عليه أن يشكر الله تعالى على الهدية والإيمان، وأجب عليه أن يسأل الله تعالى دوامهما عليه إلى أن يلقاه، فإن العبد لا يأمن مكر ربه وما سبق عليه مما كتب الله تعالى له أو عليه، ففي (صحيح البخاري 9/‏ 135) بسنده:(سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى لاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا).
من هنا ندرك أننا ينبغي أن نطمئن لأعمالنا أو نستكثرها، بل ينبغي أن نستزيد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، كما ينبغي أن نسأل الله تعالى دوما حسن الخاتمة فإنها النعمة العظمى، فـ(عَنْ بُسْرِ بْنِ أَبِي أَرْطَأَةَ الْقُرَشِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَدْعُو: اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ) (الدعاء للطبراني، ص: 424)، لأن عاقبة الأمور لا نضمنها ولا نعلم حقيقتها إلا وقتما نذوقها، ولهذا لا نكل ولا نمل طيلة حياتنا أن نسأل الله حسن نهايتها، فقد يكون العبد مجاهدًا في ميدان القتال يقاتل في سبيل الله ويموت كافرًا، ففي (صحيح البخاري 5/‏ 134):(عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: التَقَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَاقْتَتَلُوا، فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي المُسْلِمِينَ رَجُلٌ لاَ يَدَعُ مِنَ المُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالُوا: أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: لَأَتَّبِعَنَّهُ، فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ، حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ. فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ).
سبحان الله في ميدان الجهاد ويقاتل ببسالة ثم يدخل النار، إنها حكمة العلي القدير، وقد تجد النقيض تمامًا إي نعم على العكس تجد من قتل مائة نفس وهو ما يسمى في عرفنا اليوم (سفّاح) ثم يدخل الجنة، وهل هذا حدث فعلًا؟ أجل حدث فعلًا، وقد أخبر عنه الصادق المعصوم الذي لا بنطق عن الهوى ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ سبحان الله إنها القدرة الإلهية! (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ نَبِيَّ الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قَالَ: كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ. انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدْ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ. فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ. فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى الله، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ؛ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ) (رواه مسلم 4/‏ 2118)، وفي رواية:(.. فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، الْمَعْنَى: مَالَ إِلَى الْأَرْض الَّتِي طَلَبَهَاـ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى الله إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي ـ أَيْ إِلَى الْقَرْيَة الَّتِي خَرَجَ مِنْهَاـ وَأَوْحَى الله إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي ـ أَيْ الْقَرْيَة الَّتِي قَصَدَهَاـ وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ) (فتح الباري لابن حجر 6/‏ 517)، يقول ابن حجر: وفي الحديث مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس، ويحمل على أن الله تعالى إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه. وفيه أنه إنما قتل الأخير على سبيل التأول، لكونه أفتاه بغير علم، لأنه استبعد أن تصح توبته بعد قتله لمن ذكرهم بغير حق، فقتله بناء على العمل بفتواه، لأن ذلك اقتضى عنده أن لا نجاة له فيئس من الرحمة، ثم تداركه الله فندم على ما صنع، فرجع يسأل. وفيه إشارة إلى قلة فطنة الراهب لأنه كان من حقه التحرز ممن اجترأ على القتل بأن لا يواجهه بخلاف مراده، وأن يستعمل معه المعاريض. وفيه أن الملائكة الموكلين ببني آدم يختلف اجتهادهم في حقهم بالنسبة إلى من يكتبونه مطيعًا أو عاصيًا، وأنهم يختصمون في ذلك حتى يقضي الله بينهم. وفيه فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية، ولهذا قال له الأخير:(ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء) ففيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلها والاشتغال بغيرها. وفيه فضل العالم على العابد لأن الذي أفتاه أولًا بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة فاستعظم وقوع ما وقع من ذلك القاتل من استجرأه على قتل هذا العدد الكثير، وأما الثاني فغلب عليه العلم فأفتاه بالصواب ودله على طريق النجاة، قال عياض: (وفيه أن التوبة تنفع من القتل كما تنفع من سائر الذنوب، وغير ذلك من المنهيات فمن أصاب من ذلك شيئًا فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) (متفق عليه)، قلت: ويؤخذ ذلك أيضًا من جهة تخفيف الآصار عن هذه الأمة بالنسبة إلى من قبلهم من الأمم فإذا شرع لهم قبول توبة القاتل فمشروعيتها لنا بطريق الأولى، واستدل به على (أن في بني آدم من يصلح للحكم بين الملائكة إذا تنازعوا) (المرجع السابق 6/‏ 517).
ولما كانت الأمثلة تنطق أمامنا فيمن أطاع ومات كافرا ومن عصى ومات تائبا، فلنجتهد في استثمار صومنا مع الإخلاص لله عزوجل سائلين إياه أن يحسن عاقبتنا وختامنا.