د. أحمد مصطفى أحمد:
اعتذر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من نواب البرلمان على انتهاكه القانون وقواعد الحظر التي فرضت خلال أزمة وباء كورونا، بعدما غرَّمته الشرطة على مشاركته في حفل في مقر الحكومة في يونيو 2020 كان انتهاكا للحجر وقتها. فبهذه الغرامة يكون بوريس جونسون أول رئيس وزراء لبريطانيا يرتكب "جناية" وهو في السلطة. ورغم أنه برر اعتذاره بأنه "لم يكن يعرف أنه بذلك ينتهك القانون" فإن البرلمان سيناقش تحويله إلى "لجنة القيم" للتحقيق في ما إذا كان كذب على النواب، وبالتالي الشعب البرلماني حين قال من قبل في البرلمان إنه لم يكن هناك انتهاك للقانون ولا خرق للقواعد في الحفلات التي نظمت في مقر الحكومة في فترة الإغلاق والحجر.
كانت المعارضة السياسية في بريطانيا، التي يقودها حزب العمَّال، تريد أن يستقيل بوريس جونسون بعد تلك الغرامة، لكنها لا تستطيع طرح الثقة بحكومته في البرلمان؛ لأن حزب المحافظين الحاكم الذي يتزعمه جونسون هو الأغلبية. ورغم أن نوابا، وحتى بعض قيادات من حزب المحافظين لا يوافقون على تصرف جونسون، إلا أنهم لا يريدون تغييره الآن. يرجع ذلك لعدَّة أسباب، أولها وأهمها أن الوضع الاقتصادي في بريطانيا في غاية السوء مع ارتفاع تكاليف المعيشة بسبب زيادة أسعار الطاقة والغذاء في الوقت الذي ستجرى فيه الانتخابات المحلية في بريطانيا في 5 مايو القادم. ولا يريد حزب المحافظين الإضرار أكثر بفرص فوزه في المحليات بتغيير قيادته ورئيس حكومته الآن. ثم هناك أيضا تبعات الحرب في أوكرانيا وبدء ظهور الآثار السلبية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) على الاقتصاد البريطاني. وكان حزب المحافظين من سعى للبريكست، بل وتزعم بوريس جونسون المجموعة المتشددة في الحزب المناهضة لأوروبا منذ ما قبل استفتاء الخروج عام 2016. وبالتالي يرى حتى الأعضاء المعتدلون في الحزب وبالطبع المناوئون لبوريس جونسون أن عليه تحمل رد الفعل على تلك التبعات وليس إعفاءه من منصبه الآن، إلا فرصة للهروب من تحمل نتيجة ما جنته يداه.
يدرك جونسون كل ذلك، أي أن حزبه لن يزيحه الآن، وهو من الذكاء السياسي والقدرة على المناورة لتعظيم الاستفادة من كل الظروف المتاحة، بل وأحيانا دفع الأمور باتجاه ما يحميه حتى في حال ارتكابه الأخطاء. لكن ما حدث في مسألة "فضيحة الحفلات"، كما أصبح الإعلام يطلق على خرق العاملين في مقر الحكومة لحظر التجمع خلال أزمة كورونا، يضر بشدة بشعبية بوريس جونسون، وبالتالي حزب المحافظين الذي يتزعمه. فالناس التي كانت محبوسة في بيوتها ولا تستطيع حتى عيادة مريض من أسرتها ولا تشييع جنازة مُتوفَّى في غاية الغضب أن رئيس الحكومة التي فرضت تلك الإجراءات لم تكن تلتزم بها أصلا. مع ذلك، فذلك الغضب الشعبي يمكن أن يخف من الآن وحتى موعد الانتخابات العامة مطلع عام 2025.
سيتمكن بوريس جونسون من تفادي تلك العاصفة، التي انحنى لها بتواضع في البرلمان يوم الثلاثاء، لكنه بدأ يستنفد كل "الأرواح" المتاحة لسياسي مغامر ومناور. فإذا كان المثل يقول "القطط بسبع أرواح" فإن بوريس جونسون أثبت أن للسياسي الذكي مثله "تسع أرواح". فمنذ ما قبل فوزه بزعامة الحزب ورئاسة الوزارة خلفا لرئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، واجه جونسون عدَّة عواصف كانت كل واحدة منها كفيلة بإنهاء مسيرته السياسية. لكنه نجا منها جميعا حتى الآن على الأقل. ففي الحملة الدعائية لاستفتاء "بريكست" كان فريق جونسون من أطلق كذبة أن الخروج من أوروبا سيوفر لخدمة الصحة العامة البريطانية ملايين الجنيهات يوميا. وقبل عام قضت محكمة بريطانية بأن ذلك كذب وخداع للجماهير. وتكررت الفضائح والاتهامات لجونسون منذ توليه السلطة قبل أكثر من عامين. وربما كان أخطرها اتهامه بالرشوة السياسية في حصوله على أموال من أحد رجال الأعمال لإعادة تجهيز شقة رئيس الحكومة في داوننج ستريت، في مخالفة لمدونة السلوك الحكومي وربما أيضا في انتهاك لقانون التبرعات السياسية البريطاني.
هذا فضلا عن دعمه لعدد من طاقم حكومته اتهموا أيضا بمخالفة القانون إما بالسلوك غير اللائق الذي أدى لاستقالة كبار موظفي الوزارات، كما حدث مع حليفته القوية وزيرة الداخلية بريتي باتيل. وهذه الوزيرة سبق لها وأن فصلت من حكومة تيريزا ماي بسبب تلقيها رشوة من "إسرائيل" وعقد لقاءات مع مسؤولين إسرائيليين بشكل غير رسمي ولم تبلغ الحكومة بها. وكانت تشغل منصب وزيرة التنمية الدولية وقتها عام 2017. كما استمر جونسون يدعم وزير الصحة السابق مات هانكوك رغم كل الشكوك حول تربحه من منصبه وحصول شركة أخته على عقود مستلزمات الوباء دون مناقصة، حتى استقال هانكوك ولكن ليس بسبب اتهامات الفساد، إنما لفضيحة أخلاقية وانتهاكه قانون الحظر الخاص بكورونا أيضا. وهكذا ضمن بوريس جونسون مجموعة من المؤيدين، يرقيهم دوما بتغييرات متكررة في حكومته ويضمن بهم تأييد الحزب الحاكم له. مع ذلك من الصعب الآن، بعد كل هذه "الكدمات السياسية" أن يراهن السياسي البارع على "أرواح" أكثر تنقذه من أي ضربات قادمة. فالأغلب أن حزبه نفسه قد لا يتحمل عبئه، على الأقل للحفاظ على ما تبقى من رصيد الحزب لدى قطاع من الناخبين البريطانيين.