محمود عدلي الشريف:
إخواني القراء.. إننا نستثمر صيامنا مع معجزة نبي كريم من أنبياء بني إسرائيل، وهو نبي الله يوشع بن نون ـ عليه السلام ـ وقصته باختصار:(لما مات موسى بعث الله تعالى إليهم يوشع بن نون نبيًا، فأخبرهم إنه نبي الله، وأن الله أمرهم بقتال الجبّارين فصدقوه وبايعوه، فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق، فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر، فلما كان في السابع نفخ في القرون وضجّ الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فدخلوا وقاتلوا الجبّارين وهزموهم، وكانت الغلبة من بني إسرائيل وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب ودخلت ليلة السبت فخشي أن يعجزوا، فقال ـ أي يوشع بن نون: اللهم أردد الشمس عليّ فقال للشمس: إنّك في طاعة الله فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقم حتى ينتقم من أعدائه دخول السبت، فردت عليه الشمس وزيد له في النهار ساعة حتى قطعهم أجمعين، ثمّ أرسل ملوك الأرمانيين بعضهم إلى بعض فكانوا خمسة فجمعوا كلمتهم على يوشع وقومه، وهزمت بنو إسرائيل الملوك حتى أهبطوهم إلى هبطة خوران، ورماهم الله تعالى بأحجار مبرّد، وهرب الخمسة الملوك فاختفوا في غار فأمرهم يوشع فأخرجوا فقتلهم وصلبهم، ثم أنزلهم فطرحهم في ذلك الغار، وتتبّع سائر ملوك الشام حتى غلب على جميع أرض الشام، وفرق عمّاله في نواحيها ثم جمع الغنائم فلم ينزل النار، فأوحى الله تعالى إلى يوشع أنّ فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت. فدخل بينهم بيده، فقال صلى الله عليه وسلّم: هلمّ لما عندك فأتاه برأس الثور مكلل بالياقوت والجوهر كان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأحنث الرجل والقربان) (تفسير الكشف والبيان عن تفسير القرآن ـ الثعلبي 4/ 47).
وقد ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك الحدث العظيم لهذا النبي الكريم يوشع بن نون في حديث شريف رواه غير واحد منهم أبو عوانة في مستخرجه (4/ 227):(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ: لَا يَغْزُو مَعِي رَجُلٌ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ لَمْ يَبْنِ بِهَا، وَلَا رَجُلٌ لَهُ غَنْمٌ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا، وَلَا رَجُلٌ بَنَى بِنَاءً لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ، فَلَمَّا أَتَى الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ وَجَاءَهُ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ سَاعَةً، فَحُبِسَتْ لَهُ سَاعَةً حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ: ثُمَّ وُضِعَتِ الْغَنِيمَةُ، فَجَاءَتِ النَّارُ فَلَمْ تَأْكُلْهَا، فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَصِقَتْ يَدُهُ بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمُ الْغُلُولَ، قَالَ: فَأَخْرَجُوا مِثْلَ رَأْسِ الْبَقَرَةِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَلْقُوهُ فِي الْغَنِيمَةِ فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَنَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا، وَزَعَمُوا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ).
وهنا سؤال يطل برأسه قائلًا: هل أحدث هذا خللا في أنظمة الكون؟ ويجيب صاحب كتاب (الآيات الكونية دراسة عقدية، ص: 273) بتصرف في النص:(إن نواميس الكون ومسير الشمس والقمر إلا أمر من المعتاد على الناس، فإذا أمرهما خالقهما بالتخلف، أو التأخر، أو حتى تغيير الوجهة تماما، فلا يسعهما إلا الامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى والله على كل شيء قدير، ومن المخالفات العقدية المتعلقة بهذه الآية الكونية إنكار حبسها لنبي من الأنبياء، وأن هذا يتعارض مع نواميس الكون، ويحدث له اضطرباً، والجواب عن أن الأمر متعلق بآية وكرامة لنبي من أنبيائه، وحبس الشمس على هذا النبي من أعظم معجزاته، وأخص كراماته)، ويقول الإمام النووي:(قَالَ الْقَاضِي اخْتُلِفَ فِي حَبْسِ الشَّمْسِ الْمَذْكُورِ هُنَا فَقِيلَ رُدَّتْ عَلَى أَدْرَاجِهَا وَقِيلَ وُقِفَتْ وَلَمْ تُرَدَّ وَقِيلَ أُبْطِئَ بِحَرَكَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ قَالَ وَيُقَالُ إِنَّ الَّذِي حُبِسَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نَبِيَّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حُبِسَتْ لَهُ الشَّمْسُ مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ شُغِلُوا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتْ فَرَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ذَكَرَ ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَالثَّانِيَةُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ انْتَظَرَ الْعِيرَ الَّتِي أَخْبَرَ بِوُصُولِهَا مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ في زيادته على سيرة بن إِسْحَاقَ) (شرح النووي على مسلم 12/ 52). ويقول ابن حجر: في (فتح الباري 6/ 221):(ولا يعارضه ما ذكره بن إسحاق في المبتدأ: أن الله لما أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمره أن يحمل تابوت يوسف فلم يدل عليه حتى كاد الفجر أن يطلع وكان وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر فدعا ربه أن يؤخر الطلوع حتى فرغ من أمر يوسف ففعل لأن الحصر إنما وقع في حق يوشع بطلوع الشمس فلا ينفي أن يحبس طلوع الفجر لغيره، وقد اشتهر حبس الشمس ليوشع، وجاء أيضا أنها حبست لسليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ وهو فيما ذكره الثعلبي ثم البغوي عن ابن عباس قال: قال لي علي ما بلغك في قول الله تعالى حكاية عن سليمان ـ عليه الصلاة والسلام: (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) (ص ـ ٣٣)، فقلت: إنما أراد سليمان جهاد عدوه فتشاغل بعرض الخيل حتى غابت الشمس فقال للملائكة الموكلين بالشمس بإذن الله لهم ردوها علي فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها، ولا يعارضه أيضًا ما ذكره يونس بن بكير في زياداته في مغازي بن إسحاق أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما أخبر قريشا صبيحة الإسراء أنه رأى العير التي لهم وأنها تقدم مع شروق الشمس فدعا الله فحبست الشمس حتى دخلت العير وهذا منقطع لكن وقع في الأوسط للطبراني من حديث جابر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار وإسناده حسن ووجه الجمع أن الحصر محمول على ما مضى للأنبياء قبل نبينا (صلى الله عليه وسلم) فلم تحبس الشمس إلا ليوشع وليس فيه نفي أنها تحبس بعد ذلك لنبينا (صلى الله عليه وسلم) وروى الطحاوي والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي في الدلائل عن أسماء بنت عميس أنه (صلى الله عليه وسلم) دعا لما نام على ركبة علي ففاتته صلاة العصر فردت الشمس حتى صلى علي ثم غربت وهذا أبلغ في المعجزة.. والله أعلم.
ومن خلال هذه القصة ندرك أن هذا الكون يسير وفق قدر الله تعالى ومشيئته، وها نحن نرى الاكتشافات الكونية المعجزة المبهرة كل يوم، وما نقول فيها إلا سبحان الله الخالق العظيم، فاستثمر صومك وتأمل فيما حولك.