[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
” ساهمت بعض العوامل النفسية والثقافية في التأثير على نماذج التفكير والوعي الجماهيري او الرأي العام تجاه الطرفين ـ اي المسؤولين والمؤسسات الرسمية ـ بشكل لم تستطع فيه المعالجات الرسمية في بعض الأوقات أن تستوعب فيه ذلك الاتساع الأفقي والعمودي من ضغوط المرحلة الوطنية, ما نتج عنه استمرار تباين وجهات النظر في العديد من القضايا من باب الدفع والتدافع الايجابي.”

ــــــــــــ
حالها كحال اغلب الدول العربية شكلت الفترة من العام 2011- 2014م لبلدنا العزيز مرحلة تاريخية استثنائية في أحداثها وتجاربها في مختلف المجالات السياسية منها او الاقتصادية او الاجتماعية وغير ذلك, أفرزت في نهاية المطاف كنتاج لذلك الزخم التاريخي من الأحداث والوقائع والتحولات سواء كانت طبيعية او استثنائية العديد من الدروس والتجارب والعبر التي يجب أن يتم التعامل معها بحرص واهتمام وحذر وحنكة وحكمة, والعمل على الاستفادة منها بقدر المستطاع, بل وتقييمها التقييم الاستراتيجي الدقيق والشفاف بهدف تطوير أداء النظام السياسي ككل من مؤسسات عامة وخطط ومرئيات وغير ذلك لما فيه مصلحة الوطن والمواطن في الحاضر والمستقبل, وبما يواكب التغيير المتسارع والجذري في هياكل البناء السياسي للبيئة السياسية الوطنية والدولية.
وكما نشاهد ونلاحظ على الساحتين الخليجية عموما والوطنية على وجه الخصوص هناك تغيير ملفت للنظر, بل وبالغ الوضوح وبشكل متصاعد حيال نظرة المجتمع بوجه عام وجيل الشباب على وجه التحديد الى محيطه الوطني السياسي وما يرتبط بذلك من مؤسسات ومسئولين وكذلك الى القضايا التي تلامس مستقبله بكل اتجاهاته وتوجهاته ومعيشته كمواطن على تراب وطنه خصوصا, سواء اختلفت وجهات نظرنا وقناعاتنا حيال مستوى ذلك التقادم او مستوى نضوج ذلك الوعي والثقافة السياسية, وقد شكل هذا التحول في الوعي ضغطا ملاحظا وواضحا على جوانب كثيرة بكل تأكيد, كان من أهمها جانبان رئيسيان في الحياة الوطنية, أولهما على مؤسسات الدولة بمختلف أجهزتها المدنية والعسكرية والأمنية, وثانيا على طبيعة وشكل الأهداف والتطلعات والخطط الوطنية القائمة او المستقبلية.
ومما لا شك فيه ان المتتبع المتخصص لأسباب ذلك التغيير في مستوى التفكير والثقافة السياسية والوعي الوطني المتشكل بشكل متصاعد لدى هذا الجيل الوطني يرى انه نتاج العديد من العوامل التاريخية والحضارية الحتمية, سواء كان ذلك عائدا لأسباب ثقافية او تكنولوجية او نفسية او حتى سياسية واقتصادية وغير ذلك, فان المهم في كل ذلك هو التأكيد على شكل أنماط ذلك التغيير في جانبيه الأفقي والعمودي, حيث نلحظ جانبا من توسع دائرة الاطلاع على الأحداث بسبب العولمة وتقدم التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي, كما نلحظ ثقافة متقدمة في النقد والتعامل مع الوقائع سواء كانت تلك الثقافة صدامية حساسة في بعض الأوقات, او بعيدة عن الانفعال والعاطفة والتسرع في أوقات أخرى, كذلك ومما نؤكد عليه التوسع في القضايا من حيث التأثير والتأثر وممارسة حق المشاركة السياسية والتعاطي مع الأحداث والوقائع خارج السلطنة او داخلها , وباختصار فان الوعي المجتمعي وصل الى مرحلة متقدمة بسبب ما سبق ذكره من أسباب , ولابد من الحرص المتعقل والحكيم في التعامل معه والتعاطي مع صيرورته .
إذا كيف يمكن ربط ذلك التقادم التاريخي والحضاري المجتمعي او الجماهيري في جانب الوعي والثقافة السياسية, وضغط الممارسة والنقد والتأثير الذي نشاهده على العديد من المؤسسات الوطنية من جهة ونماذج التعاطي الرسمي من حيث الشخوص والخطط معه من جهة أخرى؟
حيث أنتجت الحالة التاريخية واقعا جماهيريا أكثر قدرة على الضغط وممارسة حق المطالبة بالتغيير والتأثير على العديد من القرارات الوطنية وعلى رأسها القرار السياسي, وهي حالة سياسية واجتماعية ايجابية وليست سلبية, تنم عن تطور وتقدم إنساني وحضاري في المقدرة على التعاطي مع الأحداث والوقائع, فكانت ردة فعل الجانب الرسمي هي مواكبة ذلك التسارع بتغيير في جانب الأشخاص وتطوير بعض الأفكار, في محاولة لبث دماء جديدة في هياكل البناء السياسي الوطني في مختلف مستوياته, على أمل التوصل الى احتواء سنوات طويلة من تكلس الأفكار ووجهات النظر والنظرة الى التغيير بسبب وجود نماذج قيادية طال أمد بقائها في السلطة لسنوات طويلة لم تعد معها قادرة على التعاطي مع المتغيرات السريعة الراهنة, وخصوصا مع أفكار الجيل ومطالبه والمتغيرات في الحياة والواقع الاجتماعي والسياسي.
أما في جانب آخر فقد طال ذلك التغيير والتأثير الذي نتج عن ضغوط الجماهير او الشارع شكل التفكير الرسمي من حيث وجود محاولات لتغيير منهجية وشكل الخطط والمرئيات والاستراتيجيات الرسمية, وذلك من خلال محاولة بناء منظومة من الخطط المستقبلية لمواكبته من جهة واستيعاب مده وحجمه وتسارعه الذي تقدم كثيرا من حيث المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية شكلا ومضمونا عن استيعاب المقدرة الرسمية من جهة أخرى, وقد ساهمت بعض العوامل النفسية والثقافية في التأثير على نماذج التفكير والوعي الجماهيري او الرأي العام تجاه الطرفين ـ اي المسؤولين والمؤسسات الرسمية ـ بشكل لم تستطع فيه المعالجات الرسمية في بعض الأوقات أن تستوعب فيه ذلك الاتساع الأفقي والعمودي من ضغوط المرحلة الوطنية, ما نتج عنه استمرار تباين وجهات النظر في العديد من القضايا من باب الدفع والتدافع الايجابي.
ومن بين تلك العوامل التي يجب التعاطي معها والتطرق إليها لأنها الأهم والأبرز حضورا في ذاكرة الوعي الجماهيري عبر تاريخ بناء الدول والحضارات مسألة الثقة التراكمية التي تتحقق من خلال عوامل معينة وليس نتاج الصدفة, وهو أمر طالما حرص عليه ونبه إليه المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ منذ بداية النهضة المباركة, لذا كان خطابه الذي وجهه لكبار رجال الدولة من وزراء ومسئولين في الخامس عشر من شهر مايو من العام 1978م، والذي يعد بحق اقرب إلى مواد دستور سبر أغوار النفس البشرية من الناحيتين النفسية والذهنية ليستخرج منها حلقة الوصل التي تربط استقرار الدول وتوطيد أركان الحكم بها وترسيخ الأمن والأمان بالمواطن نفسه.
وبمعنى آخر، ان ثقة أبناء الوطن بمؤسسات دولتهم وبالقائمين على إدارتها هي أهم ركائز الاستقرار وصمام الأمن والأمان لأوطانهم، وهو ما يؤكده ـ رعاه الله ـ في قوله (( لقد أولانا شعبنا منذ تولينا أموره ثقته الكاملة بنا، ومن خلال ثقته هذه، وثق بمن اخترناه ‏ونختاره لتولي المسؤولية لإدارة مصلحته العامة، ولذا فإن علينا وعليكم المحافظة على هذه الثقة ‏وعدم التفريط بها )) ويواصل ـ حفظه الله ـ خطابه سالف الذكر بقوله: ((لقد جمعناكم اليوم من وزراء ووكلاء ومدراء لنوجه إليكم النصح والإرشاد فيما يجب عليكم القيام ‏به لأداء رسالتكم في خدمة هذا الوطن الغالي، بالطريقة التي ترضى الله ورسوله، وترضينا ‏وترضي المواطنين الذين أولونا ثقتهم)).
وهنا يؤكد جلالته من جديد على أهمية المحافظة على مسألة الثقة بين الحاكم والمحكوم من جهة، والمواطن ومؤسسات الدولة من جهة أخرى، وربطهما برضا الله عزوجل ورسوله عليه الصلاة والسلام ومن ثم رضاه ورضا أبناء هذا الشعب الكريم, ونحن هنا بكل تأكيد لا يحق لنا تعميم انعدام الثقة بشكل كامل بين المواطنين ومؤسسات الدولة فذلك أمر فيه ظلم وإجحاف للعديد من المؤسسات التي استطاعت كسب رضا السواد الأعظم من الجماهير, بل ما نؤكد عليه هو وجود ثغرة ليست بالهينة في هذا الجانب بين المواطن وبعض المؤسسات الأخرى والتي لم تتمكن حتى اللحظة من التعاطي والتعامل مع هذا الجانب بطريقة مقبولة.
طبعا هناك العديد من الأسباب التي يمكن من خلالها استقراء مؤشرات استمرار ضعف مسألة الثقة حيال بعض المؤسسات او استمرارها حتى اللحظة الراهنة, يقع على رأسها التعاطي الحساس والصدامي وربما العاطفي والمتسرع في بعض الأوقات من قبل الرأي العام او المواطنين مع العديد من المرئيات والخطط الرسمية والتصريحات الإعلامية والصحفية لبعض المسؤولين من جهة أخرى , وهو ما اثر كثيرا على نظرة المجتمع الايجابية حيال العديد من القضايا الوطنية وطرق وأساليب التعامل مع الطرف الرسمي من خلالها , حتى مع العديد من الخطط الطيبة والبناءة .
المهم في الأمر ان المرحلة الوطنية الراهنة ونتيجة كل تلك التراكمات تحتاج الى مزيد من العمل والجهد والتخطيط في جانب بناء مسألة الثقة حيال مؤسسات الدولة والمسئولين بها قبل أي أمر آخر , وهو أمر لابد أن يؤخذ بكل تعقل وتفهم من جانب الحكومة لا بحساسية شبيهة وعاطفة ومكابرة, فكنظام سياسي ومؤسسات رسمية يفترض أن تعمل لأجل خدمة الصالح العام والمواطنين, وان كان رضا الناس غاية لا تدرك , فان الحكومة ملزمة بشكل او بأخر بضرورة التعاطي مع هذه المسألة ومع أذواق الناس بشكل أكثر حرفية وتخطيط فكسب الثقة مسالة مهمة للغاية وان كانت نسبية ولكنها تساهم كثيرا كما سلف وقلنا في تمرير العديد من المرئيات الحكومية وافتقادها يفاقم الشك والريبة حيالها بشكل مستمر.
وعندما نتحدث عن التعاطي مع هذه المسألة ومع أذواق الناس بشكل أكثر حرفية وتخطيط , فإننا نقصد وجود خطة مؤسساتية مقننة الوقت تقوم على رسم مخطط مستقبلي وأهداف واضحة في هذا الاتجاه , تعمل على تلك الرؤية التي تحتاجها كل دولة حديثة في هذا القرن لان ثقة مواطنيها بمؤسساتها والقائمين عليها من المسئولين من أهم عوامل استمرار بنائها وتنميتها والتفكير الايجابي لمواطنيها في مستقبلهم الوطني , وهنا نطرح عددا من الأفكار التي نرى أنها يمكن ان تضيف بعض النقاط الايجابية الرابحة في مسألة رفع مستوى التفاؤل وتوثيق روابط الثقة بين الرأي العام ومؤسسات الدولة وتعمل على تحقيق تلك الأهداف وهي بكل تأكيد على سبيل المثال لا الحصر , ومن أهمها التالي:
(1) إبراز مصداقية الحكومة ومؤسساتها المعنية كأجهزة الرقابة المالية والإدارية والأجهزة الأمنية في جانب مكافحة الفساد بمختلف أشكاله وأنواعه والتأكيد على تلك الأعمال إعلاميا وبشكل مستمر ودائم.
(2) الرقابة والمحاسبة في كل الاتجاهات سواء كانت محاسبة على الأخطاء الناتجة عن القرارات او المخططات والمرئيات او الأفكار فيما نطلق عليه بأجهزة الرقابة الثالثة وهي امتداد للمحاسبة الإدارية , حيث تتجاوز الرقابة على المعاملات والأوراق الى الرقابة على الأفكار ومحاسبة المسئول عن النتائج السلبية التي تنتج عنها سواء كان ذلك على البنية التحتية او على البشر دون استثناء لاحد.
(3) تشاركيه القرار والتوجهات الرسمية مع المواطنين حيال قضايا وطنهم ومجتمعهم خصوصا تلك القضايا التي تمس حياتهم اليومية ومعيشتهم ودخل الفرد .
(4) وجود قيادات تجمع بين شرعية الانجاز ـ السيرة الذاتية التي تعبر عن أحقية الشخص في المنصب ـ بعيدا عن القبلية السياسية وكذلك لديها قبول اجتماعي ومحبة الرأي العام .
(5) نزول المسئول الى الشارع وقربه من المواطنين والعمل معهم على حل مشاكلهم اليومية وهمومهم الحياتية.
(6) العمل السريع للحد من التجاوزات والأخطاء اليومية قانونيا وفنيا واحتواءها قبل تراكمها وتفاقمها وتحولها الى أزمة, فالأخطاء الصغيرة تتحول مع الوقت الى فساد بالتجزئة في حال أهملت.
(7) الشفافية الحكومية والمصارحة الرسمية والمكاشفة في إبراز مقدرة الحكومة على التعاطي مع الأزمات والاعتراف بالأخطاء والصعوبات وكذلك تحديد التوجهات والخطط الرسمية وأهداف كل وزارة مع بداية كل عام أمام الرأي العام إعلاميا بهدف التأكيد على مبدأ الشفافية, مع التأكيد على التعاطي المقنن بزمن محدد لتلك الخطط والمرئيات الحكومية تجاه الخطط والتوجهات التنموية.
(8) تخفيف البيروقراطية ومركزية القرار الحكومي وتقاسمه بين الحكومة بأجهزتها التنفيذية ( مجلس الوزراء والمؤسسات الرسمية ) والمجالس التشريعية ( مجلس عمان والمجالس البلدية) والرأي العام, بمعنى آخر تخفيف عبء مسؤولية القرارات خصوصا تلك التي تلامس معيشة المواطن بتوزيعها على كل أطراف البناء الوطني.
(9) الرقابة الميدانية ووجود مؤسسات في كل محافظة للتعاطي السريع مع شكاوى المواطنين من جهة ومقترحاتهم من جهة أخرى وذلك بشكل سريع ومباشر.
طبعا وكما قلنا ومازلنا نكرر فانه لا يعيب على أي امة وطنية او حكومة أن تتبنى رسميا إنشاء مؤسسة تقوم بالعمل على هذه المسألة الغاية في الأهمية في زمن تحتاج فيه أي حكومة في العالم لثقة شعبها بها وبمخططاتها ومرئياتها وتوجهاتها الرسمية وبالمسئولين القائمين على رعاية معيشة المواطنين وحياتهم اليومية وبمستقبلهم الوطني بها من خلال خطط وأهداف محددة ومقننة بوقت, يكون لها أمر التنسيق ومتابعة كل ما يمكن أن يلامس او يمس قضية الثقة في الجانب الرسمي وارتباطه بأبناء هذا الوطن العزيز في ظل وعهد باني مسيرة عمان "أطال الله عمرها وعمر بانيها"حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم.