د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. ونتناول هنا ما يتعلق بسورة البقرة فقط، من حيث إننا نتناول الاعتكافَ في آيات الصيام التي نزلتْ بشأن الصيام، والعبادة، والاعتكاف في المساجد في رمضان، وبَيَّنَتْ أحكامَ الاعتكاف كلها، وندور في تناولها حول بلاغتها، وكمال بيانها، وما تحمله من تربويات، وقيم، ومطالبَ، وما وراءها من الحِكَم، والله المستعان.
يقول الله تعالى:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة ـ 187).
تتحدث تلك الآية عن أحكام الاعتكاف في ليلة الصيام من حيث حِلُّ الرفث، وبَيَّنَتْ أن المرأة والرجل يتكاملان، فهي جزءٌ يَحِنُّ إلى كله، وفرعٌ يميلُ إلى أصله، وكل من الأصل والفرع، والكل والجزء يتناغمان، ويلتقيان في أمر حلالٍ، أحله الله لهما في ليل الصيام، لا في نهاره، وأن المرأة تستر زوجَها، وزوجها يسترها: حقيقة أو رمزًا، كما في نحو:(هُنَّ لِباسٌ لَكُم وأنتُم لِباسٌ لَهُن)، وهو كناية عن الاستعفاف التام، والالتفاف الحاني ببعضهم، وستر أحوالهم معا؛ وذلك بتلبية دواعي الفطرة السليمة بالعفة، والحلال، وإشباع مطالب الجسد، والروح، وتحقيق رغائب النفس من كليهما، وأن هذا الأمر كان قديمًا عند فرض الصوم مصدرَ اختيان بينهما، يحدث بين آحاد الأسر ضعفا منهم، وارتكانًا إلى بشريتهم، وإلحاحِ نفوسِهم، وكانوا يستحيون من فعله، ويتمنون أن لو الله أباح ذلك في ليلِ رمضان، ولم يكن مباحًا إلا لفترة يسيرة بعد الإفطار، قد لا يدركها الكثيرُ منهم لانشغالاتهم، ولم يكن أحدُهما ليصبرَ عن الآخر بعد ما يزيد على ست عشرة ساعة يوميًّا من الجد، والاجتهاد وراء السعي على تحصيل الرزق، وكلها أعمال شاقة، وسعي متواصل، ودأب مستمر، فكان الواحد منهم يعود إلى أهله، ويُفطِر معهم، ويتمنى أنْ لو أحلَّ الله له قُرْبَ أهلِه، فأنزل الله رحمتَه بهم، وبنا جميعا، وأحلَّ ذلك الأمر ليلا، فمن حقكم من الآنَ ـ أيها المؤمنون ـ أيْ من لحظة أنْ أحلَّ الله تلك المباشرة، فاطلبوا ما كتبه الله لكم، من الولد الصالح، والذرية المستقيمة، فقد أحلَّ لكم المطعم، والمشرب من بعد أذان المغرب حتى يُؤَذَّنَ للفجر، وتَتَبَيَّنُوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فيبدأ الصيام إلى الليل، حتى يؤذَّن للمغرب، فتفطروا، أما الاعتكاف في المسجد فله حكمٌ خاصٌّ، وَضَّحتْهُ تلك الآية بقولها:(وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة ـ 187).
فـ(لا) ناهية، تفيد طلب الانتهاء عن الفعل على سبيل الإلزام، فالمباشرة ممنوعة، وإذا أرادها فليكنْ قاطعًا للاعتكاف، خارجًا من المسجد، وليذهبْ إلى بيته، أما حالَ نية الاعتكاف الذي يربِّي عزيمة الإنسان، ويقوِّي روحه وذاته، ويجعل منه رجلا قويًّا مالكًا لإرادته، يستطيع أن يتحكم في نفسه، وأن يكون صبورًا لربه، عازمًا على طاعته، مجتهدًا في عبادته فلا يجوز لك، فمن التزم بهذا التزاما صارمًا فهو الذي يقوم بالنهي خير قيام، مهما كان من أهله، ومهما تفكر هو نفسه في تلك الأمور.
فالنهي هنا يجب أن ينهضَ له المؤمنُ القويُّ الإيمانِ، القويُّ الجَنانِ، القويُّ العزيمةِ، ولفظ: (تباشروهن) يأتي هنا كناية عن الوطء، أو الجماع، ولكنَّ القرآن عوَّدنا عفةَ القول، وحياء اللفظ، وسموَّ الكلمة، ورقيَّ الحرف، والضمير الغائب:(هن) يعود على مَنْ هي حلال لزوجها، وامرأته الفاضلة التي تعتكف معه، وتعبد ربَّها مثله، ومطلوب إليها هي الأخرى أن تكون قويةً، صابرةً، وأن تمتنع عما يطمع زوجها فيها في تلك الأوقات الإيمانية العالية الثمينة، فهي معتكفة مثله في بيت من بيوت الله، وقد أتيا إليه؛ ليعتكفا ويعبدا الله، ويعينا بعضَهما بعضًا على حسن استغلال الوقت، وجلال استثماره في القرب من الله، وهي وسيلة للارتقاء بالروح، وتزكية النفس.
والتسامي بالعزيمة: أن تجد حلالك بين يديك، وتَقْوَى على ترك تلك الزوجة الحلال، وترك رغبتك، وطلبك لها لله ربِّ العالمين، وللتخلِّي عن الحجة إليها، والتحلي بالطاعة، وصلاة القيام، والتهجد، والصلاة، والذكر، والشكر، والبكاء بين يدي الله، والدعاء، والتضرع بخضوع، وخشوع، ودموع.