د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. وتأتي واو الحال في: (وأنتم عاكفون في المساجد)، لتبين أن ذلك حاصل مع زمن الاعتكاف فقط في المسجد، وقوله:(وأنتم عاكفون في المساجد) هو جملة اسمية، وهي تفيد ثبوت الحكم، واستمراره، وأزليته كلما كان هناك اعتكاف في أي وقت في رمضان وغير رمضان، وترى الخطابَ هنا لجماعة الذكور:(وأنتم عاكفون)، ولم يقل:(وأنتن عاكفات)، وكأن الأصل هو اختبارُ عزائمِ الرجال، وهم في الحقيقة الأصل في ذلك الأمر، فلو رأتِ المرأةُ أو الزوجةُ منه قوةً، وعزمًا، وإصرارا على الطاعة ما لانت، ولا مالت، وإنما تكون قويةً معه، تؤازره، وتؤيده، ولا تفعل ما من شأنه إضعافُه عن طاعته، وجعله مضطربًا قلقًا فيها، بل تساعده بكثرة الصلوات، والدعوات، والبكاء بن يدي الله، والتأمين على دعائه، ومنافسته في العبادة، وعدم الحديث من قريب أو من بعيد عن هذا الأمر، والحديث المستمر في خشية الله، وحُسْن عبادته، وجميل استثمار كلِّ لحظة، ونحن في المسجد، وأن الدقيقة في رمضان ولياليه العظام إذا مضتْ فلا، ولن تعود إلى يوم الدين، وأن هناك تنافسًا كبيرًا بينهما في الذكر، والدعاء، والتلاوة، وتبادل للتعاون في تنظيم الوقت لعمل كلِّ الطاعات، والقربات، ونحوها، فالخطاب بضمير المذكر (ابتداءً، وخبرًا): (وأنتم عاكفون): أتى لأن الرجل هو سببٌ أصيل في إتمام ذلك الأمر، ولولاه لما تَمَّ، وأنَّ الأصل أن الرجل هو رُبَّان السفينة، وعليه المعوَّل في شأن الطاعة، وإقامة الاعتكاف الصحيح وفق مطلوبِ الشرع الحنيف، وأن الزوجة ما هي إلا مؤتِمرة بطاعة زوجِها، وإعانته على عبادة ربه، والتقرب من مولاه؛ ولذلك جاء بعد تلك الآية ما يشعر بالتحذير، والتنبيه من عدم القيام بحق الصيام، وأحكامه، وحق الاعتكاف، وضوابطه، يقول تعالى:(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) فاسم الإشارة للبعيد (تلك) يشير إلى كل ما مضى من أحكام الصيام والاعتكاف، وإلى بُعْدِ منزلته، وعُلُوِّ مكانته، ويشير إلى كل ما نزل فيما يتعلق بصوم رمضان، وأنه لما كانت تلك أوامر الله التي يجب تنفيذها، وعدم التهاون فيها، جاء التذييل يحمل كل ألوان التحذير المتمثل في عدم القرب، لا عدم الفعل نفسه، ولا عدم الاعتداء، بل عدم القرب من الأصل؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فقال:(فلا تقربوها)، أي لا تفكروا أصلا في الاقتراب منها ناهيك عن اقترافها أو القيام بها، فمجرد الاقتراب نفسه ممنوع، ومجرد التفكير فيه لا يجوز؛ وذلك لتبعاتِ ما بعده، فالإسلام يجفِّف المنبع من الأصل، ويمنع الاقتراب من أسواره العالية، وحصونه السامية، والإضافة هنا:(حدود الله) لبيان شرفها، ومدى قدسيتها، وطهارتها، وحرمتها، وخطورتها، وقد استعمل (تلك)، واستعمل التركيب الإضافي:(حدود الله) للتشريف أولًا، ولبيان أهمية الحكم، وللتأكيد على ضرورة العناية به، والجدية في تنفيذه على أفضل ما يكون، وأن السبب في بيان كلِّ تلك الأحكام في هذا الدين القويم هو تحصيل فضيلة التقوى، وهي أهم صفة في علاقة المسلم بربه، وتراها هي العاقبة، والمآل من وراء سَنِّ أي فرض أو حكم، سواء يتعلق بالصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج، والذبح، والفداء في أعمال الحج، وكل عمل من شأنه طاعة الله يوصل صاحبه إلى غاية الغايات، ومقصد المقاصد، وهدف الأهداف، ومراد المرادات، وهي وصية الله لجميع خلقه:(أنِ اتقوا الله)، فقوله:(كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) تأتي نتيجة لما سبق، وتعليلا لكلِّ تلك الأحكام، وبيانها، والتحذير من التهاون فيها، والذي بيَّن هو الله تعالى وفي قوله: (الناس) هنا (أل) فيها إما أن تكون جنسية، أيْ يبينها لكلِّ الناس، وكلِّ خلقه، وإما أنها عهدية، أيْ الناس المعهود أن القرآن يخاطبهم بها، وبالالتزام بالقيام بها، وهم أهل الإيمان، والمسلمون الذي آمنوا بالله ربًّا، وبِنَبِيِّه رسولا، وبالإسلام دينًا، ولعل من الله موجبة، أيْ حاصلة، حاصلة، إذا قال ـ جلّ جلاله: (لعل)، فبرحمته يودعها في قلب مَنْ حاول القيام بها، ومشى في طريقها، وسلك السبيلَ إليها، وعمل لها، وبها، وسعى لها سعيها، وهو مؤمن، فالله ـ جلّ جلاله ـ يوصله إلى هدفه، ويُعِينه عليه، ويقوِّيه، ويتقبله منه، ويثيبُه عليه.