أحمد بن علي المعشني
صليت منذ أسبوع في مسجد الرحمن بنيابة طوي أعتير بولاية مرباط في محافظة ظفار، وبعد أن انتهيت من الصلاة توجهت إلى هضبة ( إجرثونوت) المطلة على وادي حيين، حيث يقع طريق ضيق علمت من هواة (الهايكنج) أنه يقود إلى عين ماء مهجورة تقع في قعر الوادي إلى الأسفل من شعب (إنحور أقيت) وانحور يعني الوادي الضيق و(أقيت) تعني الرمح المدبب المصنوع من شجر (الميطان) القوي. كان الشوق يدفعني بقوة للنزول، ولكنني أجهل الطريق، وليس معي من يرافقني، كانت المنطقة مهجورة في هذا التوقيت من شهر رمضان، على غير حالها في مثل هذا الوقت من بقية الشهور. كما أن الجو كان حارا جدا، ويبدو أن الناس قد تواروا عن الحر هروبا من العطش، لكنني لم أكن أشعر بالعطش، ربما لأنني دربت نفسي أن أعيش حالة الصيام كشعور بالاستمتاع خالي من المعاناة.
اتصلت ببعض الأصدقاء ممن يعرفون الطريق إلى العين، ولكنهم نصحوني جميعا أن أتخلى عن فكرة النزول، وبرروا نصحهم بإن المكان وعر وصارت معالمه مطموسة بعد إعصار (موكونو) وصرفوني عن فكرة النزول إلى العين لطبيعة موقعها الوعر وقلة معرفتي بالطريق، وليس معي رفيق يرشدني. كرروا تحذيري ونصحي بأن أتخلى عن الذهاب إلى وقت آخر خارج شهر رمضان، أذعنت لكلامهم وجلست لبعض الوقت في سيارتي أتجول ببصري بين التلال والهضاب والشعاب. كان السراب يخترق الأرض والأشجار على مد البصر؛ كنت مستمتعا أتأمل المشهد. أدركت أن الناس يخافون من العطش ويخشون الجوع بينما يستمتع المواظبون على صيام النوافل و لا يتوقفون عن أعمالهم وأنشطتهم في شهر الصوم. أدركت وأنا أمارس الرياضة اثناء الصوم أن كثيرا من الصائمين يصومون عن الحياة بشكل كلي، ويهربون إلى النوم في نهار شهر رمضان، وقليل من الناس ينتشرون في الأرض يبتغون الكسب والربح. كان رمضان في الماضي موسما يستثمره الناس؛ يسعون في البيع والشراء ويباشرون أنشطتهم التجارية والاجتماعية، ويكدحون من الصباح حتى المساء في أعمالهم الاعتيادية بين تجارة وصيد وزراعة ورعي، ولم يكونوا يستنكفون عن أي عمل يجلب لهم لقمة العيش الحلال، لكن الرفاهية التي غلبت على حياة الجميع أقعدت كثيرا من الناس عن السعي، وجعلتهم ينتشرون يطلبون الزكاة ويلتمسون الصدقات، وقد استغربت أن يأتي بعض المتسولين في سيارات جيدة ونظيفة يسوقونها وينتقلون بها يطلبون زكاة الفطر ويلتمسون الصدقة.
كان بوسعهم العمل في أعمال كثيرة تضمن لهم حياة جيدة وكريمة. إن شهر الصيام بقدر ما هو شهر العطاء وتفريج الكربات وتنفيس عن المهمومين فإنه موسم للعمل والمثابرة والبركة، وهو شهر الانتصارات وارتياد الآفاق في مختلف الفصول التي يستقبل فيها الناس الشهر فيصومونه ويعملون فيه بكل كفاءة وجدارة. عادت بي الذاكرة إلى السبعينيات من القرن العشرين، يوم كنت أدرس في المرحلة الابتدائية وكنت أسير وأنا صائم من منطقة البيوت الشعبية المحاذية لقصر الرباط القريب من الاسطبلات السلطانية بصلالة حاليا إلى المدرسة السعيدية في الحصن. كنت وزملائي نقطع تلك المساقة سيرا على الأقدام ونحن صائمون. كنا نعتبر الأمر بسيطا، ولم تكن هناك يومئذ سيارات لنقل الطلبة كما أن سيارات الأجرة كانت قليلة جدا. ثم شهد الناس وقت الرفاهية والراحة فصار ذلك يدفعهم إلى أخذ أجازتهم من أعمالهم في شهر رمضان وقضاء الليل في الأكل والسهر والهروب إلى النوم بالنهار حتى وقت متأخر من اليوم.

رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية