نجوى عبداللطيف جناحي:
في شهر رمضان يكثر الناس من فعل الخيرات، فمنهم يقدم الصدقات للناس، ومن هم من يبذل المال لتحمل كلفة استخدام المساجد كأن يتبرعوا بالماء للمصلين أو بعلب المحارم الورقية، أو بالطيب، أو بمواد التنظيف، أو التمر والماء لإفطار المصلين. كما يهتم الناس بصلة الرحم لما فيه من الأجر والثواب عند الله، ومن هذه الأعمال التي يرتجي بها الصائم الأجر والثواب التطوع لخدمة الناس، فالبعض يفرغ وقته لتجهيز الموائد الرمضانية في الأحياء والخيام الرمضانية، والبعض يتطوع لتقديم وجبة الفطور لسائقي السيارات، ومنهم يوفر وجبة الفطور للموظفين الذين يكونون في مواقع عملهم في وقت الإفطار كموظفي المستشفيات والأطباء، وموظفي المطارات، والشرطة في الشوارع. وقد اهتمَّ المسلمون منذ القدم بالتطوع لخدمة الناس في شهر رمضان المبارك، ومن هذه الممارسات (المسحر أو ما يُسمَّى بالمسحراتي)، حيث يتطوع أحد رجال الحي لإيقاظ الناس لتناول وجبة السحور والاستعداد لصلاة الفجر، فيحمل أحد الرجال الطبل ويعلقه على رقبته ويقرع الطبل بعصا ليصدر صوتا عاليا في أنحاء الحي فيوقظ الناس، ويتجول المسحراتي في شوارع الأحياء بين المساكن ليقف بقرب نوافذ المنازل، ليقرع عندها الطبل فيوقظ أهل البيت لتناول وجبة السحور وعادةً وما يوقظهم قبل موعد أذان الفجر بفترة تكفي لإعداد وجبة السحور أي بحوالي ساعتين، ويلزم نفسه يوميا بهذا العمل طوال شهر رمضان الفضيل طلبا للأجر والثواب. والمسحراتي شخص محبوب يفرح الناس بقدومه، فتجد الأطفال يتحلقون حوله ويتبعونه في كثير من الأحيان، وتجد لكل حي مسحرا خاصا به يتولى هذه المهمة يطوف بين الأحياء (الفرجان) قبل وقت السحور إيذانا ببدء وقت السحور، وينطلق خلفه شباب (الفريج) في مسيرات تستقبلها بيوت (الفريج) بالترحيب والفتيات بالمشاهدة من خلال النوافذ والأبواب. بينما تهرع الأمهات لتحضير أطباق السحور والرجال بالاغتسال استعدادا لصلاة الفجر.
ويتولى المسحراتي هذه المهمة منذ بداية شهر رمضان حتى ليلة العيد، وفي الماضي كان يرافق المسحراتي شخص أو شخصان يحملان الفانوس ليضيء الطريق له، ومع ظهور الكهرباء وإنارة الطرق اختفى حامل الفانوس فلا حاجة له فمصابيح الشوارع، والمنازل تضيء له الطريق.
ويردد المسحر أثناء تجواله بين الأزقة عبارات مختلفة تتناسب مع شهر رمضان المبارك، يتغنى بها طوال الشهر الفضيل منها:
يا نايم وحّد الدايم
يا نايم اذكر الله
يا نايم وحّد الله
قوموا على سحوركم
ومن العبارات المشهورة التي يرددها المسحراتي
لا إله لا الله محمد يا رسول الله
لا إله إلا الله سحور يا عباد الله
ومن هذه العبارات التي يرددها المسحراتي في دول متعددة
إصحى يا نايم
اصحى وحد الدايم
وقول نويت
بكرة ان حييت
الشهر صايم
والفجر قايم
اصحى يا نايم
وحد الرزاق
رمضان كريم
والبعض يردد أناشيد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن كل هذه الكلمات والأناشيد تردد بلحن بسيط يعتمد على جملة موسيقية واحدة متكررة، فيحفظها الكبار والصغار ويترنم بها جميع الناس طوال العام متفكهين بتلك الأناشيد البسيطة التي تذكرهم بليالي رمضان.
ويستمر المسحراتي في مهمته التطوعية منذ بداية شهر رمضان وحتى آخر ليلة بالتزام دون تخلف، وبعد إعلان ليلة العيد يخرج المسحراتي يتجول في الشوارع ليغني أغاني وداع رمضان بعد انقضاء الشهر الفضيل ليذكر الناس بحمد الله على أنه أعانهم على صيامه وقيامة، ويعبِّروا عن فرحتهم بالعيد، ويتبعه الأطفال والشباب من شارع إلى آخر يرددون خلفه أغاني الوداع، ليشكلوا موكبا جميعا يسعد أهالي الحي به ويعلن به إطلاق أفراح عيد الأضحى. وعلى الرغم من أن المسحراتي يلتزم بهمته بإيقاظ الناس للسحور تطوعا، إلا أن الأهالي يقدمون له العطايا بكل حب وسعادة في ليلة العيد تعبيرا عن شكرهم له وتقديرا لجهده التطوعي خلال شهر رمضان، وقد تكون هذه العطايا نقودا، والبعض يقدم له هدايا كالأرز والقمح والتمر والملابس الجديدة كلٌّ بحسب ما تجود به نفسه.
وكما اختفى مرافق المسحراتي الذي يحمل الفانوس لظهور الكهرباء، تغيرت طريقة المسحراتي بظهور السيارات، فبعد أن كان يسير على قدميه بين الطرقات أصبح يستقل السيارات المكشوفة، وبعد أن كان يعتمد على صوته الجهوري العالي ليوقظ الناس أصبح يعتمد على مكبرات الصوت (الميكرفونات) والسماعات التي يضعها في السيارة. وعموما في العصر الحديث لم يعد هناك حاجة لتطوع أحد رجال الحي كمسحراتي لإيقاظ الصائمين لتناول وجبة الفطور، فالناس باتت تعتمل على الساعات والهواتف لتنبههم وتوقظهم لتناول وجبة السحور، وبات المسحراتي جزءا من التراث الذي يحرص الناس على الحفاظ عليه ونقله في الأجيال، وظل الناس يذكرون عمله كتراث شعبي لكنهم نسوا أن هذا العمل عمل تطوعي. نسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال في هذا الشهر الفضيل... ودمتم أبناء قومي سالمين.