محمد عبدالصادق
مصر.. المستورد الأول للقمح على مستوى العالم، تستورد تقريبا نصف احتياجاتها ويلبي الإنتاج المحلي النصف الباقي، وتكبدت ميزانيتها حوالي 2.5 مليار دولار العام الماضي، لشراء القمح من روسيا وأوكرانيا ودول أخرى منتجة، بعد أن قللت استيرادها من القمح في العام 2021م من 13 مليون طن وصلت تكلفتها 3.1 مليار دولار في 2020م إلى قرابة 9 أطنان بعدما عملت على ترشيد استهلاك القمح؛ بتقليل عدد المستفيدين من الدعم وإنشاء صوامع لتقليل الهدر، والتوسع في زراعته محليا، وتأمل وصول الإنتاج هذا العام إلى 9 أطنان من زراعة 3.6 مليون فدان، تغطي نصف استهلاكها البالغ 18مليون طن.
ويستهلك الفرد في مصر 185 كيلوجراما من الدقيق سنويا، بينما معدل الاستهلاك العالمي 75 كيلوجراما للفرد، ولعل هذا يفسر سر استهلاك مصر كميات من القمح تفوق دولا عدد سكانها ضعف التعداد المصري، ويرجع ذلك للثقافة والنمط الغذائي عند المصريين، وعشقهم "للتغميس" حتى أنهم يسمون الخبز "عيش"، وهو عشق يعود للعصور الفرعونية، حيث عثر على أرغفة خبز شبيهة بـ"العيش الشمسي" الذي يستخدم حتى الآن في صعيد مصر داخل المقابر والمعابد الفرعونية، حيث كانوا يضعونه مع المتوفى على أمل أن يقتات عليه عندما يصحو من موته حسب معتقداتهم.
والمصريون لا يعرفون أن يتناولوا أصناف الطعام بدون وسيط، الذي هو في الغالب الخبز أو الأرز وفي بعض الحالات الاثنين معا، فلا غرابة أن ترى أحد المصريين يضع وجبة كشري مكونة من الأرز والمكرونة داخل الرغيف، ويلتهمه باستمتاع شديد، والبعض يفعل نفس التصرف مع "المحشي" الملفوف ولكن بنسبة أقل.
وقليل من المصريين من يعمد لتناول وجبته مباشرة بدون الوسيطين السابقين، ويستعمل الملعقة أو الشوكة في التعامل مع طبق من السلطة والخضار واللحم، وهؤلاء يسخر منهم غالبية المصريين ويطلقون عليهم طبقة "الإليت" أو أولاد الذوات المرفهين، الذين لا يشعرون بمعاناة الشعب.
ويبرر أغلبهم سبب لجوئهم المفرط للخبز، لمحاولة سد جوعهم بوسيلة رخيصة لعدم استطاعتهم شراء أصناف اللحوم والدجاج والأسماك والخضراوات التي يتناولها الأغنياء بالشوكة والسكين، ويرفض معظم المصريين تناول نفس الوجبة حتى لو كانت بنفس التكلفة ولكن بدون استخدام الخبز أو الأرز للحفاظ على صحتهم وأوزانهم، ويرون أنها لا تسد رمقهم ولا تشعرهم بالشبع.
وربما هذه الثقافة الغذائية المغرقة في الخبز، تفسر سبب انتشار السمنة وزيادة الوزن بين المصريين، حتى أصبح 25% من الشعب عرضة للإصابة بداء السكري، مع ما يحمله هذا المرض من مضاعفات صحية وخسائر اقتصادية على العلاج وقلة الإنتاجية.
بعد أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، ارتفع سعر طن القمح من 240 دولارا إلى أكثر من 450 دولارا، ومرشح للزيادة مع استمرار أمد الحرب، وعدم ظهور مؤشرات على انتهائها، وبالفعل ظهرت التأثيرات السلبية لهذه الحرب على الاقتصاد المصري، بموجة تضخم واشتعال أسعار كافة السلع الغذائية وأولها الخبز الذي تضاعف سعره وقل وزنه، وراحت الحكومة المصرية تبحث عن مصدرين جدد لتلبية احتياجاتها من القمح، بعد تعذر مرور سفن القمح الروسية والأوكرانية في البحر الأسود المنفذ البحري الرئيسي للدولتين الذي أصابته الحرب بالشلل.
للتغلب على هذه الأزمة، يجب إعادة النظر في السياسات الزراعية الحالية، وإعطاء الأولوية لزراعة القمح على حساب المحاصيل الأخرى الموجهة للتصدير مثل الفراولة والكنتالوب، والبناء على التجارب الناجحة في زيادة إنتاجية الفدان من القمح والتي استطاعت الوصول إلى 9 ملايين طن من الإنتاج المحلي، واستصلاح مساحات جديدة من الأراضي الصالحة للزراعة، وتشجيع الفلاحين على زراعة القمح بشرائه بأسعار مجزية تساوي السعر العالمي، وتحسين نوعية التقاوي والسماد والبذور، ودعم الفلاحين بتوفير مستلزمات الإنتاج بقروض ميسرة، وتقديم المشورة والإرشاد الزراعي، والاستعانة بالبحث العلمي، ومصر تمتلك علماء أكفاء، وهناك عشرات الأبحاث قابعة في أدراج مراكز البحوث الزراعية، قادرة على مساعدة مصر في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح.