محمود عدلي الشريف:
أحبابنا في الله .. إننا في نعم وافرة نحمد الله عليها ونشكره، ومن تلك النعم أننا نستطيع أن نشتري ما نشاء في أي وقت نشاء بأموال قدرها الله لنا من أسباب الرزق، فليخر الآن كل واحد منا ساجدًا يشكر ربه على هذا، وليلجأ إلى الله تعالى دومًا في كل أحواله في اليسر قبل العسر، وفي السراء قبل الضراء، والرخاء قبل الشدة، عملًا بوصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لابن عمه عبد الله بن العباس (رضي الله عنهما) في (شعب الإيمان 12/‏ 354): (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، كَذَا قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا غُلَامُ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِنَّ؟ قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا وَالْيَقِينِ فَافْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، وإذا مرت بواحد منا ضائقة فلا يضجر فهذا حال الدنيا (لَقَد خَلَقنا الإنسّانَ فِي كَبَد) (البلد ـ ٤)، معناه: لقد خلقنا ابن آدم في شدّة وعناء ونصب، فحين خُلِق في مشقة لا يُلَقى ابن آدم إلا مكابد أمر الدنيا والآخرة) (تفسير الطبري، ت: شاكر 24/‏ 433).
وطالما هذه حال الدنيا فلا يشغلنا سوى رضا الزاق ذي القوة المتين، فهو خير معين، وطالما أنت كذا ـ أخي الحبيب ـ تتقي الله وتخشاه، فاعلم أن الله معك ولن يترك عملك، وسيخرجك من كل ضائقة مهما عظمت، ومن كل مصيبة مهما طمت، ومن كل مشكلة مهما كبرت، وهذا ما حدث في محطتنا التي توقفنا عندها اليوم من سلسلتنا الرمضانية (استثمر صومك)، فهي محطة قصتها عجيبة، وأحداثها غريبة، وعبرها رهيبة، وفوائدها جليلة، تزرع فيك الثقة بربك وترعرعها، وتقوي إيمانك وتثبته، ففي (صحيح البخاري 3/‏ 95): (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاَ، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا).
انظروا كيف سخّر الله تعالى ماء البحر ليحمل الخشبة حتى ألقاها بين يدي صاحب الدين، وهذا لقول الرجل مناجيًا ربه ( وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا)، ومن أحفظ من الله للوديعة، وقد ورد في كتاب (الدعاء للطبراني، ص: 261):(عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ).
وكان حرص الرجل أن يرد الدين لصاحبه بأي طريقة كانت، لأنه يعلم خطر الدين وخطورته، وقد جاء في (السنن الكبرى للبيهقي 6/‏ 126): (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ) و(عنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ: هَا هُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، وَكَانَ إِذَا ابْتَدَأَهُمْ بِشَيْءٍ سَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ: هَا هُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا فُلَانٌ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ حُبِسَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ بِدَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: عَلَيَّ دَيْنُهُ، فَقَضَاهُ) (المرجع السابق 6/‏ 125).
فلندرك أهمية الدين ـ إخوة الإيمان ـ ولنعمل على رد أي دين لأصحابه، فـ (عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: شَهِدْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَبَسَ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، لَوْ حَدَّثْتَنَا حَدِيثًا عَسَى اللهُ أَنْ يَنْفَعَنَا بِهِ، قَالَ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَفْعَلْ؛ فَإِنِّي شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ: عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا يَنْفَعُهُ أَنْ أُصَلِّيَ عَلَى رَجُلٍ رُوحُهُ مُرْتَهَنٌ فِي قَبْرِهِ، لَا تَصْعَدُ رُوحُهُ إِلَى اللهِ، فَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ دَيْنَهُ قُمْتُ فَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتِي تَنْفَعُهُ).
ومن أجمل القصص عن الدين حديث أبي قتادة (قَالَ جَابِرٌ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْنَا لَهُ: تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَقَامَ فَخَطَا خُطًى ثُمَّ قَالَ: عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالَ: فَقِيلَ: دِينَارَانِ، قَالَ: فَانْصَرَفَ. قَالَ: فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَقُّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ، قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: فَقَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟ قَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ، قَالَ: فَعَادَ إِلَيْهِ كَالْغَدِ قَالَ: قَدْ قَضَيْتُهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ) (المرجع السابق 6/‏ 124). ومما سبق يتضح عون الله تعالى للمدين بتسخير الوسيلة التي بها يؤديه لأصحابه، فاللهم أعنا على سداد ديوننا، واستثمار صومنا.