د. أحمد مصطفى أحمد
أعدت صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية الرصينة فيديو عن كيف أصبحت لندن مغسلة الأموال القذرة في العالم نشرته هذا الأسبوع، في سياق الحملة على أموال المليارديرات الروس في بريطانيا بسبب حرب أوكرانيا. ونقلت منافذ إعلامية كثيرة محتوى الفيديو منها إعلام ناطق بالعربية. الحقيقة أن ما تضمَّنه الفيديو لا يحمل جديدا لأي متابع للشأن البريطاني بعقل منفتح، وإن كان المشاركون فيه من صحفيي الصحيفة ونائبة برلمانية وغيرهم ألقوا الضوء على جوانب مختلفة بشكل أبرز أهمية الأمر من منظور بريطاني. لكن، مرة أخرى، ما استدعى تسليط الاهتمام على دور بريطانيا في استقطاب أصحاب الثروات المشبوهة من كل أنحاء العالم، من أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية يُعد جزءا من حملة غربية على الأثرياء الروس الذين نقلوا ثروات الاتحاد السوفييتي السابق بعد انهياره قبل نحو ثلاثة عقود إلى مصارف الغرب وأصول في بلاد الغرب وغيرها.
ربما يتحدث الغرب دوما عن ملاذات غسيل الأموال التي يستخدمها لصوص الجريمة المنظمة والفاسدون من السياسيين الذين يرتشون وينهبون بلادهم في مناطق أخرى، لا يذكرون أعتى الديموقراطيات الغربية. ولطالما انتقدت سويسرا مثلا التي تعتمد سرية الحسابات المصرفية؛ لأنها تسمح لكبار "الحرامية" بإخفاء أموالهم في مصارفها. لكن إذا كانت سويسرا تفعل ذلك، فإنها مجرد "خزينة" لحفظ الأموال، أو "وسيط" لتحويلها من جهة إلى أخرى عبر نظامها المصرفي. أما الديموقراطيات العريقة وبلاد الحرية مثل أميركا وبريطانيا وغيرهما، فإنها ليست فقط خزينة وإنما تقوم بدور "المغسلة" التي تحوِّل تلك الثروات والأموال غير الشرعية إلى ثروات وأموال شرعية بعد تدويرها في نظامهم المالي والقانوني كله. أذكر أنني كتبت في هذه الزاوية عام 2009 عن محبة كبار اللصوص في العالم للندن، وكانت المناسبة وقتها الحديث عن أموال الجنرال بينوشيه التي غسلها في بريطانيا.
في فيديو الفاينانشيال تايمز يطالب المشاركون بأن تعمل الحكومة على سد الثغرات في النظم المالية والقانونية التي تسمح للأثرياء المشكوك في ثرواتهم بجعلها مشروعة عبر بريطانيا. وكان السياسيون بالفعل أطلقوا تصريحات مع بداية الحرب الأوكرانية تحمل شعارات رنانة عن تعديل القواعد والقوانين وغيرها. لكن الحقيقة أن ما قصدته بالفعل حكومة حزب المحافظين هو تعديلات تسمح لها بمصادرة المليارات من ثروات الأثرياء الروس الموجودة في أصول بريطانية. وبغضِّ النظر عن مدى إمكانية ذلك قانونا، إذ إن المصادرة غير التجميد، ولا يعني التجميد ضمن العقوبات أن تستولي على ثروات الخاضع للعقوبات نهائيا. لكن الحكومة تستغل الغضب الشعبي بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا كي "تحصل" على بعض المليارات بشكل أو بآخر في وقت صعب اقتصاديا مع بدء ظهور آثار خروج بريطانيا من أوروبا (بريكست) وتبعات أزمة كورونا ثم ما سببته الحرب من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.
لكن يصعب تصور أن تقوم حكومة، خصوصا إذا كانت من حزب المحافظين، بأي إجراء من شأنه أن يحدَّ من دخول الأموال إلى بريطانيا، أيا كان مصدرها. فكما ذكر المشاركون في الفيديو فإن نوابا وسياسيين من المحافظين منتفعون بشكل مباشر من هؤلاء الذين يغسلون أموالهم في بريطانيا، وهناك منهم من تجده عضوا في مجالس إدارات الشركات الوهمية التي يستخدمها هؤلاء لتبييض أموالهم. حتى بالنسبة للأثرياء الروس وأمثالهم فقد بدأت موجة دخول مئات المليارات إلى النظام البريطاني في عهد رئيس الوزراء وزعيمة حزب المحافظين الراحلة مارجريت تاتشر. وخلفها زعيم حزب العمال السابق توني بلير ليتبع سياسة أكثر تسامحا مع أموال تحتاج للتبيض من المحافظين. المسألة ببساطة أن بريطانيا أصبح اقتصادها يعتمد بالأساس على تقديم الخدمات المالية والقانونية لهؤلاء. ويلاحظ من يسير في شوارع الأحياء الفخمة في العاصمة البريطانية مزيج السيارات الفارهة أمام العقارات باهظة الثمن لتجد إفريقيًّا أو آسيويًّا يخرج منه تتذكر أن صورته كانت تأتي في الأخبار كمسؤول كبير سابق في بلده أو من رجال الأعمال المتهمين في بلدانهم بقضايا نصب أو اختلاس أو فساد. أما قادة العصابات فغالبا لا تراهم، لكن يمكن أن تتعرف على مدى ثرواتهم من ممتلكاتهم في لندن.
وكما كتبت هنا قبل أكثر من عقد من الزمن، تراجعت الصناعة والتجارة في بريطانيا بشكل كبير بعد انحسار الامبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس. وكي تحافظ على مكانتها الريادية في العالم استغلت مهارات راسخة في الصياغات القانونية والاستشارات الاستثمارية والسياسية وقطاعها المالي المخضرم لتعتمد في نسبة كبيرة من دخلها القومي على استقطاب الأموال وأصحابها. للتبسيط، حين لا يكون لديك صناعة ضخمة ولا تجارة واسعة تبتكر وظيفة لا يمكن الاستغناء عنها: أن تعمل في عد وتنظيم و"تستيف" أموال من يصنعون أو يتاجرون، أو من ينهبون تلك الأموال بشكل أو بآخر. لا يهم المصدر، طالما هناك أموال توفر لك فرصة عمل، خصوصا وأنت تتكسب من عدِّ النقد وتنظيم تحويله واستثماره وصياغة العقود وتقديم الخدمات الاستشارية. وهنا يعتمد دخلك على حجم النقود والثروات، فكلما زادت ارتفعت الرسوم التي تحصلها وكلما قلت تراجع دخلك.