علي بدوان:
شدُّ الرحال إلى القدس والأقصى، انتفاضة يومية لأبناء فلسطين في شهر رمضان المبارك، فقد شهد الشهر الفضيل معركة حقيقية كبرى على الأرض بين الشعب العربي الفلسطيني وأبنائه العُزَّل، وجيش الاحتلال الإسرائيلي ومجموعات المستوطنين، خصوصًا من مستعمرة (بني براك) المجاورة لمدينة القدس، والمعروف بأن مُعظم، أو جميع مستوطنيها من المُتطرفين ومن عتاة اليمين والحريدي التوراتي الصهيوني. الذين يسعون دومًا للاعتداء على المسجد الأقصى واقتحام باحته الكبرى، واستباحتها. والاعتداء على المصلين المسلمين في مختلف الصلوات، وعند صلاة التراويح، كما حدث خلال الأسابع الماضية.
وجاء "القرار الإسرائيلي" الإضافي بفرض قيود وعوائق على وصول الفلسطينيين إلى كنيسة القيامة للمشاركة في احتفالات سبت النور، والاعتداء على رجال الدين، ووضع قيود على عدد المحتفلين بيوم "سبت النور المقدَّس" في كنيسة القيامة وساحتها ومحيطها، أو المداخل المؤدية إليها تأتي في إطار الاستهداف الممنهج للأماكن المُقدسة في مدينة القدس، وجزءًا لا يتجزأ من التصعيد المتواصل بحق مدينة القدس. إن كل ذلك يعطي صورة واضحة فيها عن "العدوان الإسرائيلي" المتأصل على حرية العبادة والمعتقد، ومحاولات النيل من الرموز الدينية والتاريخية والحضارية العربية الإسلامية والمسيحية للقدس، بوصفها العاصمة الروحية والسياسية للفلسطينيين، وقِبلة العرب والمسلمين في الأرض المحتلة.
إن قوات الاحتلال تمس الجميع، في انتهاكاتها بحق المقدسات الفلسطينية، الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس المحتلة، والتضييق على المسيحيين الفلسطينيين والحدِّ من حرية حركتهم ومشاركتهم من خلال نصب الحواجز وإغلاق الأبواب المؤدية إلى كنيسة القيامة في مدينة القدس للاحتفال بـ"سبت النور". فسياسة الاحتلال يستهدف كل مكوِّنات الشعب العربي الفلسطيني وكل أطيافه.
ومع هذا، ورغم بطش جبروت الاحتلال الإسرائيلي، كانت وما زالت إرادة الفلسطينيين هي الأقوى، فقد توافدت جموع غفيرة من الفلسطينيين، من مختلف أنحاء الضفة الغربية والقدس المحتلة والداخل الفلسطيني من مناطق العام 1948 إلى مدينة القدس المحتلة لأداء صلاة الجمعة الثالثة من شهر رمضان الفضيل في المسجد الأقصى المبارك، وسط إجراءات أمنية مُشددة فرضتها أجهزة "الاحتلال الأمنية الإسرائيلية". ووفقًا لوزارة الأوقاف الفلسطينية فقد أدَّى أكثر من 150 ألف مصلٍّ من المواطنين صلاة الجمعة الثالثة من رمضان في المسجد الأقصى المبارك.
حقيقة، في شهر رمضان المبارك الجاري وفي أيامه العشرة الأخيرة، وقبل بفترة وجيزة من قدومه، تصاعدت الفعاليات الكفاحية الوطنية الفلسطينية، وتصاعدت الأشكال الفدائية من قبل الأجنحة العسكرية الفلسطينية من كتائب الأقصى التابعة لحركة فتح إلى الجهاد إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام، إلى كتائب الشهيد أبو علي مصطفى... في مواجهة الاحتلال بالاشتباك المباشر ومن (النقطة صفر) وبالجسد المُثخن بالجراح، جنبًا إلى جنب مع كل الوسائل الكفاحية المُمكنة، في مواجهة جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين المسلحين وغير المسلحين، في مدينة القدس وضواحيها، وصولًا لعمق الأرض المحتلة في الداخل المحتل عام 1948.
الدعم الذي تلقاه الفلسطينيون من الحلفاء والأصدقاء في الجوار المحيط بفلسطين، وعلى كل المستويات، ساعدهم على الاشتباك مع جيش الاحتلال الإسرائيلي وكل مرتسماته وتجسيداته في مدينة القدس وما حولها وعموم أرض فلسطين التاريخية، وصولًا إلى مدينة يافا التي أبدع في إشعال النيران فيها وتحت أقدام الصهاينة الشهيد (رعد فتحي حازم) في مواجهة الاحتلال يوم الخميس من نيسان/ابريل 2022.
وعليه، معركة القدس والأقصى، ما زالت مُستمرة، ومترافقة مع النهوض الوطني الكبير في فلسطين منذ ما قبل شهر رمضان المبارك الجاري، وتوَّجها وبشكلٍ يومي نضال وكفاح الشبان وحتى الرجال وكبار السن والنسوة الفلسطينيين، بالتصدي لجيش الاحتلال الإسرائيلي ومحاولات المستوطنين اقتحام باحة الأقصى الكبرى، وهو ما يذكرنا بواقعة صيف العام 2000، عندما اقتحم الجنرال أرئيل شارون باحات الأقصى على رأس مجموعات من المُتطرفين الصهاينة، فنهض أبناء فلسطين في مواجهة شارون ومن معه، وهو ما أعطى نتائجه مباشرة باندلاع الانتفاضة الكبرى الثانية على يد أبناء فلسطين، تلك الانتفاضة التي أعادت زخم وحضور القضية الفلسطينية إلى كل أروقة وأدراج المجتمع الدولي، وهزَّت دول الاحتلال الإسرائيلي، من خلال مفاعيلها الاستثنائية، استكمالًا للانتفاضة الكبرى الأولى التي انفجرت نهاية العام 1987.
إن حكومة نفتالي بينيت، المتهاوية، والفاقدة للأغلبية البرلمانية (النصف + واحد) تحاول دغدغة المشاعر اليمينية التوراتية، والبهيمية الفاشية عند غالبية الصهاينة، من خلال (اللعب) على وتر اقتحام الأقصى والاستمرار بالحفريات على جوانبه، وبالتالي السعي للإطباق على مدينة القدس. واعتبارها أمام الجمهور اليهودي في فلسطين المحتلة أن ما تقوم بها ليس سوى استمرار لمشروع "إسرائيل" بتهويد مدينة القدس، ومحو طابعها العربي الإسلامي والمسيحي، والمساس بأوابدها التاريخية.
إن صمود المقدسيين كان وما زال هو الأساس، المقدسيين ومعهم عموم أبناء فلسطين التاريخية الذين هرعوا للدفاع عن القدس والأقصى، والذين ما زالوا في قلب المعركة دفاعًا عن المدينة، في مواجهة نهجٍ استعماري تهويدي إحلالي توسعي يهدف إلى تغيير معالم مدينة القدس، وإغراقها بالاستيطان والمستوطنين وبكتل المُستعمرات حتى شبه الفارغة التي تزنّر القدس، وفصلها تمامًا عن محيطها الفلسطيني، وربطها بالعمق المحتل عام 1948، بما يخدم ويروّج لرواية الاحتلال التلمودية الاستعمارية، بشأن القدس لتهويد المدينة ومحيطها، وفلسطين عمومًا.
في هذا السياق، إن التطورات الجارية في فلسطين، بما في ذلك في القدس والأقصى وعموم الضفة الغربية والحدود بين قطاع غزة وأراضي العام 1948، ومعها الداخل الفلسطيني، مُرشحة للتطور من جهة توسعها، وباتجاه التصادم المُتتالي مع الاحتلال ومرتسماته، حتى في ظل عمليات الاغتيالات والقمع الفاشي الصهيوني الذي طال الجميع من أبناء فلسطين على امتداد أرض فلسطين التاريخية. فسياسة القتل لن تجدي نفعًا في نهاية الأمر، أمام وفي مواجهة شعبٍ تمرس بالكفاح الوطني منذ وعد بلفور عام 1917 حتى الآن.
إن معركة القدس، والأقصى، معركة عربية إسلامية مسيحية، قبل أن تكون فلسطينية فقط. فالشعب الفلسطيني يُعد رأس الرمح فيها، لكنه يحتاج لدعم العرب والمسلمين والمسيحيين والأحرار في العالم عامة. والدعم المطلوب مُتعدد الأشكال، من الدعم المادي لعموم المؤسسات الوطنية الفلسطينية المختلفة لتبقى واقفة على قدميها وهي التي تقدم الخدمات لعامة للمواطنين الفلسطينيين في مواجهة مشاريع الاحتلال لـ(تطفيشهم) خارج مدينة القدس، إلى الدعم المادي المباشر لميزانية وكالة الأونروا...إلخ.
فلنشد الرحال نحو القدس من عموم فلسطين، وليكن الاشتباك والانتفاضة، عنوان المواجهة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي وجيشه ومجموعات المستوطنين.