إبراهيم بدوي
أظهرت أزمات العالم الأخيرة عورات النظام العالمي اقتصاديا واجتماعيا، وظهرت عيوب لطالما تحدث عنها الخبراء والمختصون غير المؤدلجين لنظام العولمة الجديدة، بكافة جوانبه السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الثقافية والبيئية. فالثورات التي شهدها عالمنا العربي، خصوصا العفوية منها غير المفتعلة، لم تكن إلا صرخة ضد هذا النظام العالمي، الذي خلَّف فجوة كبيرة بين الفئات المجتمعية المختلفة، وبين الطبقات، حيث تآكلت الطبقة المتوسطة عن عمد، خصوصا في البلدان النامية ذات الموارد القليلة، ولِمَ لا؟ وهو نظام عالمي سعى إلى استنساخ نموذج واحد وفرضه على كافة الدول والأمم على اختلافها، ولم تجد تلك الصرخة الآذان المصغية، ليستمر هذا النظام العولمي يصم أذنيه ولا يستجيب لتلك التحذيرات المبنية على أسس منطقية؛ لتكبر كرة الثلج لدرجة أن حربا إقليمية، وفيروسا وبائيا أركعت أنظمة العالم المتقدم منها والنامي، نعم أركعته بأرقام مفزعة.
فبحسب الأمم المتحدة فحوالي (1.7) مليار شخص (ثلثهم يعيشون في فقر بالفعل) أصبحوا معرَّضين الآن بشدة لاضطرابات في أنظمة الغذاء والطاقة والتمويل التي تؤدي إلى زيادة الفقر والجوع، فيما أكدت منظمة أوكسفام البريطانية أن ارتفاع أسعار الغذاء العالمية بسبب الحرب في أوكرانيا سيؤدي إلى دخول 263 مليون شخص إضافي براثن الفقر المدقع هذا العام، وقد يصل عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية إلى 827 مليون هذا العام، كما توقع البنك الدولي أن تدفع الجائحة والحرب نحو 1980 مليون إنسان إلى هوة الفقر المدقع في 2022. إنها أرقام مفزعة تشكل وصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء، وتدعو لتدخل عاجل لتغيير هذا النظام العالمي الذي أحدث فجوة كبيرة بين فقراء وأغنياء هذا العالم التعيس دولا وأفرادا.
وتؤكد تلك الأرقام المعلنة أن عددا كبيرا من الحكومات على وشك التخلف عن سداد ديونها، وسوف تضطر إلى خفض الإنفاق العام للدفع للدائنين واستيراد الغذاء والوقود، وذلك في خضم أحداث متسارعة سابقة مثل تداعيات جائحة كورونا التي أدت إلى تدني الأجور لمعظم العمال حول العالم، رغم ارتفاع الأسعار، والتي استنفدت أيضا خزائن الحكومات النامية، التي كانت المتضرر الأكبر من تفشي هنذا الوباء، فبجانب حرمانها من أصحاب شركات الأدوية من الوصول العادل إلى اللقاحات، أجبرتها التداعيات إلى اتخاذ المزيد من التدابير التقشفية، التي تزيد طوابير الفقراء بصورة أضحت خطرا على البشرية، وتفرض حتمية تغيير هذا النظام العالمي الذي أثر على الإنسان والبيئية، وعدم الاكتفاء بتجميله وتلوينه بمصطلحات الاقتصاد الأخضر أو الأزرق وأخيرا البنفسجي الذي يحتاج وحده لشرح يطول، وهي أنظمة اقتصادية تدرس سيكون بالطبع لها تأثيرات إيجابية، لكنها لا تستطيع الصمود أمام هذا التوجه الاقتصادي العولمي الشره، الذي أضحينا جميعا ضحايا لتوحشه هو ومن يديرونه، فصندوق النقد الدولي ذاته خفَّض من تقديراته لنمو الاقتصاد العالمي في 2022م وحذّر من أن التضخم سيستمر وسيبلغ نسبته 7ر5 بالمائة للدول المتقدمة (+8ر1 بالمائة) و7ر8 بالمائة (+8ر2 نقطة) للاقتصادات الناشئة والنامية، ما يوضح من المتضرر الأكبر.
ويأتي صندوق النقد والبنك الدوليان أبرز المتهمين، فهما الأداة التي يفرض بها هذا النظام المتوحش إجراءاته القاسية، ويكبل دول العالم من خلالها بديونه لدرجة دفعت العديد من المؤسسات العالمية إلى مطالبته بالتخلي عن مطالبة الدول النامية والناشئة بالتقشف؛ لأن أزمة تكلفة المعيشة تفاقم الجوع والفقر في العالم فـ87 بالمائة من قروض صندوق النقد الدولي المتعلقة بـ"كوفيد-19" تتطلب من البلدان النامية اعتماد تدابير تقشف جديدة صارمة لن تؤدي إلا إلى تفاقم الفقر وعدم المساواة، فالعالم يحتاج أولا كحل سريع إلى تأجيل أو إسقاط تلك الديون على تلك الدول، وتوجيه تلك الأموال لمساعدة تلك الدول على مواجهة هذه الأزمة، وتوفير الدعم الكافي للفئات الفقيرة والأكثر فقرا؛ حماية للمجتمعات من الجرائم التي ينتجها الفقر، فحمايتهم من الفقر واجب علينا لكي نحمي أبناءنا، وعلى الدول النامية والناشئة عدم الانسياق وراء مطالبات تلك الأدوات التوحشية، والوقوف بصمود جماعي يمنع هذا الاستعمار وأدواته الجديدة.