سعود بن علي الحارثي
كنا في طفولتنا نشم رائحة العيد وعبيره قبل موعده بأيام، والرقاد يجافينا من شدة الفرح والبهجة والسعادة في الليالي القليلة التي تفصلنا عن هبطته التي تتزاحم في سوقها أقدام الرجال بالنساء، والشيوخ بالأطفال، وتشرئب الأعناق والرؤوس المعتمرة بالعمائم البيضاء والمصار الكشميرية المزركشة بشتَّى الألوان القزحية، لتنتقي أفضل الأصناف وأجود البضائع للعيد، وتتعالى أصوات الباعة والمتسوقين والمنادين فتمتزج بثغاء أضحيات العيد وصهيل السيوف والخناجر وقرقعة القدور والدلال... وتحتشد في سمائها روائح شتَّى البهارات القادمة من الهند والقهوة السريلانكية المقلية والحلوى العُمانية والسمن البلدي والزعفران الإسباني والحنَّاء المحلِّي المنبعثة من أكف النساء المخضبة بعجينته الحمراء، وأكلات شعبية متعددة. زخم المناسبة الجليلة التي لا تتكرر في العام أكثر من مرتين، ومهابتها وفخامتها ووقعها ومحفزاتها وجمالياتها وتشكيلاتها وألوانها الزاهية وما تتطلبه من تجهيزات وإعدادات تخيم على سماء القرية والمدينة فتسكب على حاراتها وبساتينها وبيوتها وأزقتها وطرقها عطرها الزكي الفواح، الساعات والدقائق والثواني التي تفصلنا عن المناسبة بطيئة جدا، والدردشة والحوارات البسيطة والبريئة والصاخبة بيننا نحن الأطفال لا تخفت ولا تضعف، فالعيد الذي سيستمر لأيام على الأبواب، والهبطة سوف تسبقه بليلتين، فعاليات كثيرة ننتظرها وأيام بهيجة سوف نحتفي بها ونبتهج مع المبتهجين فيها، حلويات وألعاب مختلفة، سوف نمرح ونلهو بها، ملابس جديدة نزهو بها ونفتخر ونفاخر، مكسرات وبضائع وسلع بأنواع وألوان وأشكال شتَّى لا نراها ولن نتذوقها ولا نستمتع بها إلا في العيد وهبطاته، عيديات من بيسات سوف تتقاطر على جيوبنا من الآباء والأعمام والأخوال والمقتدرين من أهل القرية تنمو فتصبح خلال ساعات كنزا ثمينا، تحقق المزيد من الأمنيات والأحلام والفرح والسعادة، سبلة العيد سوف تزدان بالشيوخ الذين تزيدهم اللحى والخناجر و"البواكير" مهابة وصلابة وشموخا، وسوف تستقبل الشباب والأطفال والرجال من كل مكان للتهنئة وتبادل التحيات والأخبار والعلوم، ويدور "دست" الحلوى والقهوة العُمانيتين مرات ومرات. فالعيد فرصة للقاء والتزاور و"المناشدة عن الأخبار والعلوم" وتوطيد العلاقات وتعميق الشعور بالفرح، مصلى العيد تزدحم ساحته بالمصلين القادمين من القرى والحارات والتجمعات السكانية القريبة لأداء صلاة العيد، وتبادل التهاني بالمناسبة وترتج ساحته بصوت الخطيب يحث المسلمين على التعاون والتآزر ووحدة الصف والتمسك بالقِيَم والمبادئ التي أمرنا بها رب العزة وفي مقدمتها الأركان الخمسة، وفعل الخير ومساعدة الفقراء وإخراج الصدقات والزكوات والأضحيات... ساحة "المركاض" هي أيضا في أوج استعداداتها كيف لا؟ وهي مركز السباقات والعروض والمناشط التي سيتبارى ويتسابق في ترابها الفرسان وأصحاب الهجن على ظهور الخيول والإبل، وسوف تحلق عاليا سحائب العواصف الترابية من تحت السنابك ووقع الحوافر، ويشتد صوت صهيل الخيل وحفيف الإبل لتبرهن على احتدام المنافسة وقوة العزائم وصلابة الرجال، الأهازيج الشعبية والفنون التقليدية، الرزحات التي تقرقع فيها السيوف لها حيزها المعتبر في أيام العيد، "العرسية" "القبولي" "المشاكيك" "المقلي" "الشواء" وغيرها الكثير من أكلات العيد وموائده المعروفة التي لكل منها طقوسها ومذاقها وطريقتها في الإعداد... والتي لا نحصل على سهمنا الوافر منها ولا نراها ونتلذذ ونستمتع بها إلا في أيام العيد. أما اليوم فلم يعد العيد كما كان، أصبح طيفا عابرا ويوما عاديا كبقية الأيام، إلا في استثناءات وفروقات محدودة جدا، فقد أحدثت وسائل التواصل والتقدم الهائل الذي شهدته شبكات النقل وازدهار الحياة وحداثتها الشاملة وانشغالاتها وقِيَم العولمة والانفتاح الاقتصادي والأسواق الكبيرة تحولا عميقا في بنية المجتمع وثقافته وأنماط سلوكه وأولوياته، ولم تعد الصور والمشاهد والبرامج والبضائع وأشكال الترفيه والعادات ومائدة العيد مقتصرة ومرتبطة به ـ أي العيد ـ واستثنائية لا تكون إلا في أيامه، ولكنها متوافرة ممتدة في كل أيام السنة.
وفي عيدنا الثالث الذي نحتفي به هذه الأيام، ما زالت جائحة هذا الوباء الذي أهلك "الحرث والنسل" تواصل إطفاءها لبهجة العيد للسنة الثالثة على التوالي. فالناس في بلدان العالم بين بكاء على حبيب فقدوه، ومصاب به ينازع الموت، ورعب من عدواه، ومن أخبار تصل من الصين ودول أخرى عن تفشيه من جديد بأعداد مخيفة، وألم على دخل تبخر وتلاشى ووظيفة حرمها منهم كورونا... هذا فضلا عن الاستمرار في "الإجراءات الوقائية، كارتداء كمامات الوجه، والتباعد الجسدي في الأماكن المغلقة... وحظر إقامة جميع المناسبات والتجمعات في المجالس العامة، خصوصا تجمعات المعايدة والاحتفالات الجماعية بالعيد، واقتصار الحضور لصلاة العيد على المتلقين للقاح مع الالتزام بالتباعد....". وهي أساسات العيد وعليها تنثر المناسبة الفرح والسعادة ... فهل ستعود بهجة العيد وفرحة أيامه وتقاليده وأعرافه مثلما كانت؟ نسأل الله العلي القدير أن يزيل غم هذه الجائحة قريبا عن عالمنا.