محمد بن سعيد الفطيسي
وعي الإنسان بحقوقه وواجباته تجاه محيطه الداخلي وحتى ما هو أبعد من ذلك ـ أقصد ـ تجاه الإنسانية ككل، ومعرفته بحدود حريته وطرق مطالبته بتلك الحقوق في حال سلبت منه في وقت من الأوقات دون وجه حق، أو انتزعت منه بقوة الظلم والاستبداد، أو عبر قانون ما لعله يجده غير عادل بالنسبة له، أو من خلال شعارات أو (شماعات) أيديولوجيات رسمية أو اجتماعية، يكفل له ذلك الفكر الواعي الوصول إليها وتحقيقها بطرق دستورية وقانونية وأخلاقية، بدون المساس والتعدي على حقوق الآخرين ومصالحهم، وحتى في حال سادت الفوضى والارتباك المكان أو الزمان تجد ذلك العقل قادرا على ضبط أهوائه وعواطفه بكل مسؤولية وعقلانية؛ لأن الوعي والإحساس بالمسؤولية متلازمان دائما.
إذًا وعي الإنسان الفكري والسلوكي بالقوانين وحدود حريته يكفل له الحرية المسؤولة في أسمى معانيها الطبيعية والإنسانية، فلا حرية ولا إنسانية في ظل الفوضى والانحلال وفساد الأخلاق وحياة الغاب، كما أنه لا يمكن لمجتمع ما أو أمة من الأمم أن ترتقي بنفسها إلى سلم الحضارة والتقدم والمدنية في ظل النزاعات الفردية والاختلافات الجماعية وغلبة الأنا، فاتفاق الكلمة هو قوة للجماعة، وبدون هذا الاتفاق لا يستطيع أي فرد أن يتقدم إلى الأمام، وأن يعيش حياة الاستقرار والحرية، ويؤسس لمجتمع متقدم ومتحضر وراقٍ بمؤسساته وخدماته وتطلعاته وأفكاره، وهذا الوعي يشمل مختلف الأفراد في المجتمع من الحاكم إلى أصغر فرد فيه.
كما أن فقدان الفرد لهذا الوعي بالحقوق والواجبات يمكن أن يخلف وراءه شكلا من أشكال المجتمع المتحفز للتطرف والعنف، أو الفاقد للثقة في الحياة والنظام ككل "لأن هناك علاقة وطيدة بين حضارة المجتمع والمؤسسات السياسية ـ أو بقية مؤسسات المجتمع المدني ـ وأن الوظيفة الأساسية للسلطات العامة هي تعزيز الثقة المتبادلة والسائدة في قلب الوحدة الاجتماعية، وأن فقدان الثقة في حضارة المجتمع يخلق عقبات مهمة أمام إقامة مؤسسات عامة، هذه المجتمعات يعاني فيها الحكم من عجز في الفعالية والاستقرار ويعاني أيضا من ضعف الثقة المتبادلة بين المواطنين في الولاء القومي والعالمي، وفي المهارات والقدرات التنظيمية"(1)
في الجانب الآخر، أقصد الجانب الرسمي؛ فإن وعي الحكام والحكومات بمسؤولياتها الدستورية والقانونية والإنسانية تجاه أفراد المجتمع ضروري للغاية، حيث الواجب أن تدرك أنها مكلفة بأن تحكم وتدير نواحي الحياة وشؤون المجتمع باسم الشعب. باختصار فإن الدول تعبِّر عن إرادتها وقوتها وحضارتها من خلال إرادة شعوبها، كما أن المجتمع يعبِّر عن إرادته بواسطة الدولة، وأنه لولا الشعوب ما وجدت الحكومات والأنظمة، فما من حكومة ولا حاكم في الأصل بدون شعب، كما أنه وفي نفس الوقت لا يمكن لشعب من الشعوب الواعية والعاقلة والمتحضرة أن يرجو بناء دولة أو حضارة بدون قائد مستنير عادل يقوده ويدفع به إلى الأمام.
فمهمة الدولة تقتضي أن تقوم بخدمة المواطنين بصورة فعلية وتسهر على حمايتهم ورعاية مصالحهم، وإلا كما يقول أفلاطون: "فإن من أفظع أعمال الرعاة وأدعاها إلى الخزي، أن كلابهم التي ربوها لحراسة القطيع، تهجم على الأغنام، إما بسبب جوعها أو نهمها، فتمزقها بأنيابها، فتكون ذئابا لا كلاب حراسة... لذلك كما يرى أفلاطون أنه ليس من الضرورة الوقوف عند هذه النقطة، ولكن الأمر الأجدر والأعظم أهمية هو الإصرار على ما قلناه، وهو: أن يتم تهذيب ـ القادة المستقبليين ومسؤولي الدولة ـ تهذيبا صحيحا إذا أريد بهم الحصول على أعظم مؤهلاتهم للحنان والعاطفة وزراعة الأمل والثقة نحو رفاقهم ونحو الذين يحكمونهم"(2)
إذًا الحرية بوصفها مفهوما مجردا من زاوية الفلسفة والقانون تؤدي دورا أساسيا في سقوط ونشوء الحضارة الإنسانية، بحاجة إلى توازن بين المسؤوليات الاجتماعية والرسمية، ومعرفة كلا الطرفين حدود واجباته وحقوقه تجاه الطرف الآخر، حيث تؤكد أنها لا يمكن أن تتحقق في ظل مجتمع لا يستطيع الوعي بحقوقه وواجباته تجاه مؤسساته المدنية والحكومية، كما أنه يكشف النقاب على أن الحرية الإنسانية ومطالبة الحكومات لشعوبها بالتعاون معها ودعمها والمساهمة في خدمة مجتمعها لا يمكن أن يتحقق في إطار حياة الفقر والكدح والقمع والكبت والظلم الاجتماعي وسيادة التمييز في مختلف جوانب الحياة المدنية وغير ذلك.
والحرية بهذه الصورة تشكل صراعا جدليا بين السلطة والوعي الجماعي المسؤول الذي يتطور باستمرار؛ لأن هذا المفهوم يتعلق بالفكر والأذهان وليس سهلا أن تقع تحت سيطرة أية سلطة، لذلك يخلق صعوبة دائمة أمام السلطة، وكما يقول سبينوزا "لو كانت السيطرة على الأذهان سهلة مثلما يمكن السيطرة على الألسن، لما وجدت أية حكومة نفسها في خطر ولما احتاجت أية سلطة لاستعمال العنف، وعاش كل فرد لهوى الحكام، ولما أصدر حكما على حق أو باطل، على عدل أو ظلم إلا وفقا لمشيئتهم، ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو؛ لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر في الأحوال الطبيعية، إذًا لا يمكن أن يخول أحد بإرادته أو رغما عنه إلى أي إنسان حقه الطبيعي أو قدرته على التفكير"(3)
على ضوء ذلك يتضح أن الحرية مرتبطة بعلاقة عضوية مع المصلحة في التنظيم القانوني، ويصبح هو ـ أي القانون ـ الإطار الذي تمارس فيه الحريات، لذلك وعندما تولد مصلحة جديدة تولد في الوقت نفسه حرية جديدة يتم السعي للوصول إليها في إطار القانون وليس العنف والفوضى، ونتيجة لذلك الصراع بين المصالح والحقوق والواجبات يزداد وعي الناس وإدراكهم ـ أي ـ ثقافتهم تجاه ذلك الحق، فمن خلال الوعي الإنساني القائم بين الحرية والقانون في ظل الصراع على المصالح والنزعة الفردية والجماعية وسلطة النظام يتكون البناء الفكري والنفسي الذي تحتاجه الحضارة الإنسانية للارتقاء والتقدم والوصول إلى الحرية الحقيقة، وهو ما يؤكد من جهة ثانية ضرورة وجود توازن دقيق بين السلطة والحريات.
لذا يعلمنا التاريخ أن مصير الأمم والشعوب منوط بحكم القوانين أو بلا معقوليتها، وبقدرة الأفراد والمجتمع والأنظمة على التفاهم والتكامل في إطار وعي شامل بحدود المسؤولية والحقوق والواجبات في ظل دستور إنساني داخلي يراعي فيه الاتفاقيات والتشريعات الدولية، وكما سلف وأشرنا إلى ضرورة أن ينبثق ذلك الدستور من رؤية جماعية تشاركية بين المجتمع المدني والنظام الحاكم. بمعنى آخر، سلطة تنبثق من الجماعة على نحو يكون الجميع ملزمين فيه بأن يطيعوا أنفسهم لا أن يخضعوا لأمثالهم.
أخيرا فإنه يجب "أن توضع القوانين في كل الدول بحيث يكون الباعث على ضبط الناس هو الأمل في تحقيق خير معين، ويرغب فيه بوجه عام، أكثر من خوف يحيط بهم، وبذلك سيقوم كل فرد بواجبه بحماس كامل، وبما أن الطاعة كما هي معروفة لدى الجميع تدور في إطار تنفيذ الأوامر بالخضوع لسلطة الرئيس الأمر وحدها، فإننا نرى ـ كما يقول ذلك سبينوزا ـ أن هذه الطاعة وهذا الخضوع المكروه لا مكان لهما في مجتمع تكون السلطة فيه منتمية إلى جميع أفراده، وتوضع فيه القوانين برضا الجميع، ففي مثل هذا المجتمع، سواء ازداد عدد القوانين أم نقص، يظل الشعب حرا لأنه يفعل برضاه الخاص لا بخضوعه لسلطة الآخرين"(4)
ــــــــــــــ
مراجع
1- هنتجين، النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، ترجمة: سمية عبود، دار الساقي، ط1/1993م
2- أفلاطون، جمهورية أفلاطون، ترجمة: حنا خباز، مطبعة بابل/ العراق، ط2/1986
3- سبينوزا، رسالة اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم: د. حسن حنفي، مكتبة النافذة، ط 3 / 2005م
4- سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، مرجع سابق