أ.د. بثينة شعبان
في ظل الشعور بالضعف والخذلان الذي يطغى على معظم التحليلات والاستقراءات العربية، يقف الفلسطينيون معلقين أعلام فلسطين على صدورهم في وجه أعتى قوة احتلال ظالمة تتخذ من الإرهابيين المستوطنين ظهيرًا لها لترهب أصحاب الأرض والتاريخ وتقتلعهم من جذورهم وتحكم قبضتها على مقدساتهم وديارهم وأراضيهم التي اختارها الله عزَّ وجلَّ لتكون مهدًا للمسيح عليه السلام ومنطلقًا للإسراء والمعراج، ولتكون أرضًا للتعايش والمحبة والسلام. والسؤال هو: ماذا يشعر الداعون إلى التطبيع والمطأطئون رؤوسهم في وجه هذا المحتل والطامحون إلى نيل رضاه وحمايته وتأثيره الفذ، حسب ادعائهم، على إصلاح علاقاتهم مع دول أخرى ونيل الفتات من معارفه التقنية؟ ماذا يشعرون وهم يشاهدون النساء المرابطات والرجال المرابطين يتحدَّون التهديد بالموت ويقفون مرفوعي الرأس شامخين لا يخشون في الله لومة لائم ولا يسكتون على ضيم ولا يهابون الرصاص الحي وهم يثبتون أنهم جديرون بما أورثهم الله إياه على الأرض؟ وماذا يشعر المهرولون وهم يتابعون أخبار الأسرى الأبطال المكبلين بالأصفاد وهم يرفضون طعام العدو وإجراءاته ويقاومونه بلحمهم الحيّ وأمعائهم الخاوية بينما ينفق المطبعون مليارات الدولارات لشراء أسلحة لا تسمن ولا تغني من جوع في غياب الإيمان الصادق بالقضية والإرادة الحقة لصونها وانتهاك حرماتها؟؟
أي واقع يتحدث عنه الخائفون المهزومون ونحن نشهد إرادات صلبة تولد من رحم المقاومة كل يوم ونشهد شعبًا لا ينسى وحقوقًا لا تموت أبدًا بالتقادم، ويثبت لهؤلاء الذين ظنوا أن الكبار سيموتون والصغار سينسون أنهم كانوا مخطئين تمامًا ولم يتعرفوا بعد على طينة هؤلاء التي خُلقوا منها كما لم يعرفوا أبدًا ما معنى أن يرفض الإنسان أن يبقى حيًّا دون كرامته وكرامة أرضه ومقدساته وإرث أجداده ومستقبل أحفاده. هم لا يعرفون معنى التضحية ولا قيمة الشهادة ولذلك لا يمكن أن يعرفوا دوافع هؤلاء لاقتحام الموت صونًا لكرامتهم. إن منظر جنود الاحتلال المدججين بالسلاح ومن ورائهم الإرهابيون الصهاينة العنصريون أمام أرتال من المصلين لا يملكون أي سلاح سوى تعابيرهم الصامدة ونظراتهم التي تخترق قلوب وعقول المحتلين وتقول لهم نحن أصحاب هذه الأرض وأنتم المعتدون والعاقبة للمتقين، وإن وعد الله حق أننا نحن من سنرث هذه الأرض إذ نحن الأئمة ونحن الوارثون.
قراءة الواقع وفهمه تعتمد في الأساس على مدى إيمانك بقضيتك وعلى مدى سبرك للتضليل الذي يعملون جاهدين على بثه في كل أركان حياتك، وتفنيدك لهذا التضليل ووأده في مكانه؛ فالمعركة ليست عسكرية فقط أبدًا وإنما هي معركة التسلح بالإيمان أيضًا ومعركة الثبات والصمود ووأد الوهم الذي يزرعونه في كل مناحي حياتنا عن قوتهم وضعفنا وعن أسباب تفوقهم وتخلفنا؛ وبذلك يكسبون المعركة قبل أن تبدأ ويبيعون الأوهام لصغار العقول الذين يعانون أصلًا من مشاعر دونية وينبهرون بكل أكاذيب الغرب وأساليب تضليله المتطورة.
حدثان اليوم بحاجة إلى قراءة متأنية جدًّا لواقعهما: الصمود البطولي للشعب الفلسطيني في وجْه أبشع أنواع الاحتلال والإرهاب في القرن الحادي والعشرين، وصمود روسيا في وجه استهداف غربي لم يبقِ ولم يذر، واستخدام كل أدواته الاقتصادية والعسكرية والإعلامية والإرهابية لينال من إيمان روسيا بذاتها وليثني عزيمة المقاتلين الروس ويقنعهم أن الانتصار على الغرب وهم. ولكن أين نحن الآن بعد شهرين من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؟ وأين هو الغرب بالفعل؟ وأين هي روسيا بالميزان الدقيق؟
مع أن روسيا هي التي بدأت العملية العسكرية وهي التي تنفق على جيشها وقواتها في أوكرانيا دون مساعدة من أحد فإن التضخم والغلاء قد ضرب الولايات المتحدة وأوروبا بينما تحسن وضع الروبل بعد هذه العملية وتمتع بثبات قلّ نظيره في وقت الحروب. ومع أن الغرب بدأ يعاني من مضاعفة أسعار الطاقة والتي انعكست على مضاعفة جميع أسعار السلع، فإن الأسعار في روسيا مستقرة ولديها من النفط والغاز ما يكفيها ويكفي للتصدير لعقود قادمة، خصوصًا وأن عددًا من الدول في العالم بدأت بتسديد أسعار النفط والغاز بالروبل ولا شك أن العدد سيزداد، ومع كل زيادة ستزداد ثقة السوق العالمية بالروبل وسيعاني الدولار من خلخلة حقيقية في موقعه الذي تربع عليه لعقود كعملة عالمية وحيدة وموثوقة للتبادل بين الدول. إلى حدِّ الآن انعكست العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا وبالًا عليه، بينما اتخذت روسيا التدابير والإجراءات التي تخلق من الأزمة فرصة ثمينة فعلًا من خلال إيقاف استيراد ما يمكن الاستغناء عنه وتطوير منتجاتها المحلية والتخطيط الاستراتيجي للاعتماد على الذات، وهنا يكمن الخلاص الحقيقي.
إذا كانت العملية العسكرية في أوكرانيا لم تتمخض عن شيء إلا عن تغيير المعادلة المالية وإزاحة الدولار عن عرشه فإن هذه نتيجة مهمة جدًّا ستشجع دولًا أخرى كثيرة في العالم للتبادل بعملاتها المحلية والتخلص مرَّة وإلى الأبد من هيمنة الدولار وتبعاته التي كلفت دولنا ثمنًا باهظًا على مدى عقود. ومع انكسار شوكة الدولار ستنكسر أيضًا شوكة الهيمنة الغربية على اقتصادات العالم وستكبر كرة الثلج وستنتقل عدوى الجرأة والتحدي إلى دول أخرى كثيرة، وكل يوم يمرُّ سوف يصبُّ في صالح من يقرأون الواقع لزيادة إيمانهم بأنفسهم والتخلُّص من وهم قوة الغرب الذي لا يُقهر. وخلال سنوات ليست عديدة سوف يتغير العالم ويرى الغرب نفسه في الحيز الذي يمثله فقط دون القدرة على فرض إرادته وهيمنته على شعوب العالم.
لقد بدأ الغرب يعترف اليوم أن عليه أن يكون واقعيًّا؛ فها هو بوريس جونسون أحد صقور الحرب في أوكرانيا يقول: "علينا أن نكون واقعيين وأن انتصار بوتين في الحرب احتمال وارد". وها هو آرون ديفيد ميللر يقول: "مع أنه قد يعد "كفرًا" ما سأقوله لكن أهداف أوكرانيا في الحرب وأهدافنا قد لا تكون واحدة وأن هذه الحرب ستكون طويلة وتحتاج إلى استراتيجية بعيدة الأمد". ولكن الواضح اليوم أن الاستنزاف الذي أراده الغرب لروسيا من هذه الحرب قد وقع هو به؛ فالاستنزاف اليوم للغرب، ومع كل غروب شمس تحقق روسيا جزءًا من مخططها واستراتيجيتها وتغيِّر الواقع بما يخدم أهدافها، بينما ينفلت الواقع من أيدي الغرب باتجاهات لا يرغبونها ولا يتحكمون بها، سواء أكانت اقتصادية أم إعلامية أم مالية أم سياسية.
ما يحتاجه اليوم أصحاب القضايا المحقة من عرب وروس وصينيين وكل المستضعفين في الأرض هو كثير من الصبر والثبات وقراءة الواقع بإيمان وعزيمة بعيدًا عن التضليل والوهم الذي استخدمه أعداؤنا على مدى قرون لإبقائنا تابعين له، ولتمكينه من نهب ثرواتنا ومصادرة مستقبلنا. ولنتذكر جميعًا أن الواقع هو ما نصنعه نحن وليس ما يدَّعيه الآخرون.